كون العلم – أو الدليل – بديهياً أو نظرياً، قطعياً أو ظنياً، هو من الأمور النسبية الإضافية التي تختلف باختلاف المدرك المستدل فقد يكون قطعياً عند زيد، ما لا يعرفه غيره إلا بالنظر، ومن اعتقد أن القطع والظن صفة لازمة للدليل بحيث يشترك في ذلك جميع الناس فقد غلط وخالف الواقع والحس.. .
وعليه، فمن أنكر بعض الأحاديث بحجة أنها ظنية، فهذا إخبار منه عن حاله، إذ لم يحصل له من الطرق ما يفيده العلم والقطع، ولا يلزم من ذلك النفي العام، حتى يكون غيره من أهل الحديث والسنة لم يحصل له العلم والقطع بمدلول تلك الأحاديث:
فيقال للمنكر: اصرف عنايتك إلى ما جاء به الرسول، واحرص عليه وتتبعه واجمعه، واعرف أحوال نقلته وسيرتهم، واجعل ذلك غاية طلبك ونهاية قصدك حتى يحصل لك من العلم اليقيني ما حصل لغيرك، أما مع إعراضك عنه وعن طلبه، فلو قلت: إنه لا يفيدك ظنًّا فضلاً عن اليقين، كنت صادقاً في الإخبار عن نفسك، وعن حظك ونصيبك منها .
وما يذكره كثير من أهل الكلام من وجوب القطع في المسائل الخبرية والتي قد يسمونها مسائل الأصول، وقد يوجبون القطع فيها على كل أحد، فهذا الإطلاق والتعميم ليس بصحيح، بل هو خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، بل ما أوجب الله فيه العلم واليقين وجب فيه ذلك، كما في قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 98]، وقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [محمد: 19] وأما ما تنازع فيه الناس من المسائل الدقيقة والتي قد تكون مشتبهة عند كثير منهم، لا يقدر الواحد منهم فيها على دليل يفيد اليقين، لا شرعي ولا غيره، لم يجب على مثل هذا في ذلك ما لا يقدر عليه، وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قول غالب على ظنه، لعجزه عن تمام اليقين، بل ذلك هو الذي يقدر عليه، ولاسيما إذا كان موافقا للحق، فالاعتقاد المطابق للحق ينفع صاحبه ويثاب عليه، ويسقط به الفرض، إذا لم يقدر على أكثر منه.
ثم إن هؤلاء المتكلمين من أبعد الناس عما أوجبوه، بل تجدهم يحتجون بما هو أقرب إلى الأغلوطات منه إلى الظنيات فضلاً عن القطعيات، بل تجد الواحد منهم كثيراً ما يقطع بصحة حجة في موضع، ويقطع ببطلانها في موضع آخر، بل منهم من عامة كلامه كذلك