هذه الطريقة قد تبدو غريبة خاصة على علماء الكلام، ولكن سيتم بيان وجه دلالتها على وجود الله تعالى بما يزيل غرابتها إن شاء الله. وقد سلك بعض العلماء هذه الطريقة كالقاضي أبي يعلى في كتابه: (عيون المسائل) وأبي بكر البيهقي في كتابه (الاعتقاد) والخطابي في رسالة: (الغنية عن الكلام) وأشار شيخ الإسلام إلى صحتها وشرعيتها إذا حررت . وقال ابن القيم: (وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله. وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يسميها الله آيات بينات) .
وبيان هذه الطريق من وجهين:
الوجه الأول: الآيات والبراهين – وهي المعجزات.
الوجه الثاني: العلوم والأحكام المتضمنة لمصالح الخلق التي جاءوا بها.
الوجه الأول: الآيات والبراهين – وهي المعجزات:
بين الله تعالى في كتابه العزيز أنه أرسل رسله بالوحي وأيدهم بالآيات تصديقاً لهم فقال: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ [الحديد: 25] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ [النحل: 43-44] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((ما من الأنبياء من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)) وسماها الله تعالى برهاناً كذلك، فقال عن آيتي العصا واليد اللتين أرسل بهما موسى عليه السلام: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [القصص: 32].
فسماها الله تعالى آية وبرهاناً وبينة، وذلك لقوة دلالتها على المطلوب، وأنه بمجرد حدوثها يحصل العلم الضروري، فهي من جنس الآيات من دلالتها على المراد، بل هي أقوى لغرابتها وعظمتها.
ومن المعلوم أن الرسول إذا جاء قومه وادعى أنه رسول الله يوحى إليه بأنه لا إله إلا الله، أيده الله وصدقه بآية، فههنا أمور:
الأول: دعواه أنه رسول.
الثاني: أن الله هو الذي أرسله سواء كان المخاطب يقر بوجوده أو لا يقر.
الثالث: أنه مرسل لدعوة الناس إلى إفراد الله بالألوهية.
فإذا جاء الرسول بآية وهي العلامة التي تدل على صدقه ثبتت الرسالة وكذلك الربوبية ضمناً، وذلك لأنها حدث من جنس لا يقدر على مثله البشر وحصلت عند دعوى الرسول الرسالة، كيف وإذا انضم إلى ذلك ما عرف من أحوال الأنبياء وصدقهم وما حصل لهم ولأتباعهم من التأييد والنصر، ولأعدائهم من الهلاك والخسران ...ولذلك فليس بلازم أن تتقدم معرفة العبد بوجود الله تعالى على حصول الآية والمعجزة ومن ثم تقرر النبوة، لأنها... من جنس الآيات المخلوقة المحدثة التي لابد لها من محدث أحدثها .
ويمكن الاستدلال لها بما حدث بين موسى عليه السلام وفرعون، كما قص الله تعالى ذلك في القرآن فقال آمراً موسى وهارون عليهما السلام: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: 16-33].
ومعلوم أن فرعون قد ادعى أنه ربهم الأعلى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24].
فهو وإن كان يتظاهر بذلك إلا أنه في باطنه يقر بربوبية الله على خلقه. كما قال الله عنه ومن حوله من الملأ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14]. والآيات ساقها الله تعالى للرد عليه في هذه الدعوى التي تظاهر بها، ولذلك لما حاجه موسى عليه السلام بالآيات الظاهرة قال له: قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29] فأصر على موقفه وعناده – فدعاه موسى عليه السلام لبرهانين عظيمين وهما قلب العصا ثعباناً وإخراج اليد بيضاء بعد ضمها فلو كان ذلك لا يدل على مطلوب موسى عليه السلام وإبطال دعوى فرعون لما دعاه إليه موسى عليه السلام، بل إنه سماه مبيناً فقال: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ [الشعراء: 30].
فتقرر من هذا النص أنه يمكن إثبات ربوبية الله ووجوده بالآيات المعجزات وإن لم يكن المخاطب مقراً بذلك ومن ثم يقوم لله بالعبادة.
وأما إن كان المخاطب مقراً بوجود الله بفطرته التي لم تتغير فإنه بالآية والمعجزة تتقرر عنده النبوة والوحدانية في الإلهية كما قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ [هود: 13-14]، فهذا نص واضح على أنه بالآية – وهي هنا معجزة القرآن – تثبت وتتقرر الرسالة والوحدانية ضرورة ومعلوم أن توحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية، فإذا ثبت الأول ثبت الثاني تضمناً، ضرورة ثبوت المتضمن بثبوت المتضمن. فثبت أنه يمكن إثبات الربوبية بآيات الأنبياء.
الوجه الثاني: العلوم والأحكام المتضمنة لمصالح الخلق التي جاءوا بها:
أولاً: العلوم:
فالرسل جميعاً اتفقوا على الإخبار بأشياء معينة – يقطع المرء بأنهم لم يتواطؤا عليها ومن ذلك: دعوتهم جميعاً إلى عبادة إله واحد، وكذلك بشارة موسى وعيسى برسالة رسولنا محمد عليهم الصلاة والسلام من غير تواطؤ منهم على بعد في الأزمنة والأمكنة، فكان ذلك على الوجه الذي بشرا به.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأخبار الأمم الماضين مع القطع بأنه كان يعيش في أمة أمية، وكذلك قد أخبر بأمور تحصل في المستقبل، وقد حصلت، منها ما هو في القرآن، ومنها ما هو في السنة، فمما ورد في القرآن قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 1-4] فكان كما أخبر، ومما ورد في السنة: ((إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده)) وقوله: ((خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء)) وكانت خلافة أبي بكر رضي الله عنه سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر رضي الله عنه: عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان رضي الله عنه اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي رضي الله عنه أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن رضي الله عنه ستة أشهر، ثم نشأ الملك وكان معاوية رضي الله عنه أول ملوك المسلمين وهو أفضلهم ، فكان الأمر كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
والأخبار في هذا كثيرة جداً يحصل بمجموعها القطع والعلم الضروري، فيدل ذلك على صدقه في الرسالة وعلى وجود الخالق سبحانه، لأنه هو الذي أطلعه على ذلك إذ أنه لا يعقل أبداً أن يتحدث الإنسان ويخبر بأشياء ويصدق فيها دائماً دون تردد، ودون أن يجرب عليه كذب، إلا إذا كان موحى إليه، وأن الذي أوحى إليه هو الذي بيده الأمور وتتطابق أخباره مع قدره، وهذا ظاهر.
ثانياً: الأحكام المتضمنة لمصالح الخلق:
فقد تضمنت شريعة النبي صلى الله عليه وسلم أموراً عظيمة، يقطع الإنسان أنها لا يمكن أن تكون إلا من خالق عليم حكيم، فالشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، وهذا واضح جداً في الضروريات الخمس: الدين، والعقل والنفس، والمال، والعرض. ويراجع في هذا الكتب التي بُحث فيها عن حكمة التشريع ومقاصد الشريعة الإسلامية