فهذا النوع فيه مسألتان:
المسألة الأولى: تذكير المشركين بما يكمن في نفوسهم من التوحيد.
المسألة الثانية: بيان أنه لا حجة للمشركين ولا برهان لهم في شركهم.
أما المسألة الأولى: وهي تذكير المشركين بما يكمن في نفوسهم من التوحيد :
فهذا يحدث في أوقات الشدة، فإن المشركين كانوا إذا ركبوا في الفلك واشتدت الرياح هيجاناً وتلاطمت الأمواج وأوشكوا على الغرق أيقنوا أنه لا ينجيهم إلا الله، فعند ذلك يتركون أصنامهم ويلتجئون إلى الله وحده، فيحتج الله عليهم بأنه يجب أن يفردوه بالدعاء وحده في السراء والضراء. فمن الآيات في هذا الباب قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس: 22-23].
ومنها قوله تعالى: قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63-64] ومنها قوله تعالى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8].
ومنها قول الله تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67].
قال الشيخ محمد الأمين: (لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده ولا يصرفون شيئاً من حقه لمخلوق، وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين بالإسلام أسوأ حالاً من عبدة الأوثان فإنهم إذا دهمتهم الشدائد وغشيتهم الأهوال والكروب التجأوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح، في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله، مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع أن إجابة المضطر وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره...) .
وقال الشوكاني في تفسير آية يونس المتقدمة: (وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد... وبيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما يشابهها، فيا عجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات، فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا لله كما فعله المشركون!) .
فإذا صفا الفكر واستيقظت الفطرة أيقن الإنسان أنه لا يعبد إلا الله وحده في جميع أنواع العبادات، وبمثل هذا كان قد أسلم عكرمة بن أبي جهل فقد روى سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – ما حاصله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة منهم عكرمة بن أبي جهل هرب من مكة وركب البحر، فأصابهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً – فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً فجاء فأسلم) . اهـ
وأما المسألة الثانية: وهي أنه لا حجة للمشركين ولا برهان لهم في الشرك : فهذا نوع من الأدلة العامة التي تبطل على المشركين عبادتهم لغير الله وتلزمهم بإفراد العبادة لله جل وعلا. فإن المشركين قد طولبوا بإقامة الدليل والبرهان على شركهم فعجزوا عن ذلك. وأخبر الله أنهم إنما يستندون في ذلك على تقليد آبائهم الضالين ويتبعون الظن الذي لا يدل على الحق بأي حال. ثم إن الله تعالى يخاطب المشركين بأسلوب فيه ترهيب عسى أن يعودوا إلى صوابهم. فيخبرهم أنهم سيسألون الحجة والبرهان على شركهم يوم القيامة فيعجزون هناك، ويعلمون علم اليقين أنهم كانوا على باطل ويندمون على شركهم وتعنتهم ولات حين مندم.
فمن الآيات الدالة على أنه لا حجة للمشركين في شركهم سوى الظن: قول الله تعالى: أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [يونس: 66] قال الحافظ ابن كثير: (ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وأن المشركين يعبدون الأصنام وهي لا تملك شيئاً ولا ضراً ولا نفعاً ولا دليل لهم على عبادتهم بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم) .
ومن هذه الآيات ما قصه الله عن أصحاب الكهف فقال: هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف: 15] قال ابن جرير في قوله: لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف: 15]: (هلا يأتون على عبادتهم إياها بحجة بينة) وقال الشيخ محمد الأمين: (لَّوْلَا في الآية الكريمة للتحضيض، وهو الطلب بحث وشدة، والمراد بهذا الطلب التعجيز لأنه من المعلوم أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسلطان بين على جواز عبادة غير الله تعالى، والمراد بالسلطان البين: الحجة الواضحة) .
ومن الآيات كذلك قول الله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [الحج: 71] ومن الآيات كذلك قول الله تعالى: وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف: 20-23].
فهذه الآيات فيها بيان أن المشركين احتجوا بباطل من القول على زعمهم صحة عبادتهم غير الله، واستندوا في ذلك إلى أمرين، الأول بمشيئة الرحمن فكان بقاؤهم على الشرك – على زعمهم – مما يرضاه الله، وظنوا أن عدم أخذهم بالعذاب دليل على رضى الله عليهم – والأمر الثاني هو استنادهم على تقليد آبائهم وكل ذلك من الخرص والظن، فدل ذلك على بطلان عبادتهم غير الله، فلزم من هذا إفراد الله جل وعلا بالعبادة وحده لا شريك له.
ومن الآيات كذلك قول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف: 4] فإن الله تعالى طالب المشركين في هذه الآية بالدليل السمعي والعقلي على صحة عبادتهم غير الله .
وهما حجتان قاطعتان وبرهانان ساطعان إن وجدا، وإلا، فإن الدليل العقلي يدل على أن الذي خلق هو الذي يعبد لا المخلوق المربوب ولذلك قال: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ثم طالبهم بالدليل السمعي النقلي: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ وكل ذلك للتعجيز – ولا يستطيعون إثبات شيء من ذلك – فدل على بطلان عبادتهم غير الله، وأن الواجب هو إفراد الله جل وعلا بالعبادة .
ثم إن الله تعالى بين أنه سيسأل المشركين حجتهم يوم القيامة، ولن يجدوهم في وقت هم أشد حاجة لعذر يعتذرون به، فقال الله تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [القصص: 74-75].
قال مجاهد في قوله: فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ قال: (حجتكم لما كنتم تعبدون وتقولون) .
فعلم مما تقدم أن من الأدلة الدالة على وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة والكفر بالطواغيت هو ما أقامه الله من الحجة على استحقاقه للعبادة، ثم بيانه فساد عمل المشركين باتباعهم للظن وعدم إقامتهم للحجة الساطعة على عبادة آلهتهم التي يعبدونها، وهذا النوع من الاستدلال هو من نوع الإبطال المستلزم لصحة نقيض ما أبطل، أي إذا بطلت عبادة غير الله بما تقدم من الأدلة الدالة على ضعف غير الله وعجزه، وبما ثبت من عدم نفع غيره، بل ثبت ضرره على عابده، كان نقيض هذا هو الحق، وهو ترك عبادة غير الله وإفراد الله وحده بالعبادة، إذ هو وحده المتصف بالصفات التي بها تستحق العبادة