من أنواع الأدلة لتقرير توحيد الألوهية بيان أن الحكم لله تعالى دون سواه. وحكمه تعالى شامل للحكم الشرعي الأمري، والحكم الجزائي القضائي وهذا من ربوبية الله تعالى، فإنه جل وعلا قد حكم شرعاً فأمر أن تكون العبادة له وحده دون سواه، ونهى عن عبادة غيره، وبين بطلان عمل المشركين وصحة عمل الموحدين، وقد بين الله حكمه الجزائي القضائي من نصره لأوليائه الموحدين في الدنيا وإثابتهم في الآخرة، وعذابه الدنيوي والأخروي لأعدائه المشركين به، وكل ذلك للتنفير من عبادة غيره وإفراده وحده بالعبادة. فتبين من هذا العرض أن هذا النوع شامل لمسائل:
المسألة الأولى: من حكم الله الشرعي: الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وتوجيه المشركين إلى سؤاله وحده.
المسألة الثانية: ومن حكمه الشرعي: حكمه ببطلان عمل المشركين وصلاح عمل الموحدين.
المسألة الثالثة: ومن حكمه الجزائي: إثابته لأوليائه الموحدين ونصرهم في الدنيا والآخرة، وحكمه بنقيض ذلك على المشركين.
أما المسألة الأولى: وهي الأمر بعبادة الله جل وعلا وتوجيه المشركين إلى سؤاله وحده، فإن الله تعالى قد قال: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 40].
وقال الله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 68-70].
فبين الله تعالى أن له الخلق والاختيار، فهو يخلق ما يشاء، ويختار ما يشاء، ولا أحد يشاركه في ذلك، ولذلك نزه نفسه عن شرك المشركين ثم بين الله تعالى انفراده بالحكم، وهو شامل لكل قضاء يقضيه (فالحلال ما أحله تعالى والحرام ما حرمه والدين ما شرعه والقضاء ما قضاه) .
وإن مما قضاه الله تعالى وصية وأمراً: عبادته وحده لا شريك له كما قال: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء: 23].
وإن الله تعالى وجه المشركين إلى إخلاص الدعاء له وحده فقال تعالى: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 28-29].
وقد بين لهم الله تعالى بطلان دعائهم غير الله بأوجه كثيرة كعجز من يدعونه وأنه مربوب مخلوق لا يملك شيئاً...وإن الله تعالى أمر كل الناس بدعائه وحده لا شريك له وترك الإفساد في الأرض بالشرك وغيره فقال: ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 55-56].
المسألة الثانية: ومن حكمه الشرعي حكمه ببطلان عمل المشركين وصلاح عمل الموحدين:
فمن حكم الله الشرعي حكمه بصلاح عمل الموحدين وحسنه وذلك يوجب تقديمه على كل عمل، فمن الآيات في هذا الباب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً [النساء: 125] قال ابن جرير: (وهذا قضاء من الله جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلها) اهـ.
وقال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ... [فصلت: 33-34] أي أنه لا أحد أحسن قولاً ممن آمن بالله ودعا إلى الإيمان به واستسلم لشرع الله فقام بأمره واجتنب نهيه، ثم بين الله حكمه الشرعي بعدم تساوي الحسنة والسيئة. والأظهر في الكلمتين – أي الحسنة والسيئة – العموم كما قال ابن جرير: (ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته والشرك به والعمل بمعصيته) .
وقد حكم الله بضلال المشركين وعملهم، فبين أنه لا أضل من المشركين ولا ضلال أبعد من ضلال عملهم، فهذا حكم شرعي يوجب ترك الشرك فقال: وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء: 116].
المسألة الثالثة: ومن حكمه الجزائي: إثابته لأوليائه الموحدين ونصرهم في الدنيا والآخرة، وحكمه بنقيض ذلك على المشركين:
فإن الله تعالى قد حكى عن إهلاكه للمشركين المكذبين للرسل وإنجائه لأوليائه الموحدين من الرسل وأتباعهم، وأبقى لنا وسائل لنتعرف على صدق ذلك بما نراه ونسمعه بطرق قطعية، ثم يذكر أن في ذلك آية، أي علامة على صحة استحقاقه للعبادة وأن عبادة غيره باطلة لا نفع فيها بل فيها ضرر.
فمن ذلك قول الله تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ [العنكبوت: 38] فقال تفصيلا عن ثمود: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل: 45-46] (إلى أن قال عنهم) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل: 51-53].
وقد قص الله عز وجل في سورة الشعراء قصص الرسل مع أقوامهم، وأنهم جاءوهم بالتوحيد، فيقع التكذيب من أكثر الناس، فينزل الله عليهم عذابه بسبب ذلك ويذكر إنجاءه للموحدين ثم يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 8-9] والآية: العلامة، أي علامة على صحة استحقاقه العبادة وبطلان عبادة غيره.
وهذا الذي ذكره الله من تعذيب المشركين به وإنجاء الموحدين كله في الدنيا.
وأما في الآخرة فالنصوص كثيرة جداً فمنها قول الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72]. وقال تعالى: وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا [الإسراء: 39] وفي الموحدين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة)