لا شك أن الدين الإسلامي ليس حريصاَ على تميز المسلمين في المضمون فحسب وإنما حتى في المظهر العام للمسلم في نفسه وللمجتمع الإسلامي في عمومه. ولذلك كان النهي عن التشبه بالكفار أحد التكاليف الربانية لهذه العقيدة. وقد حفل الكتاب والسنة بأدلة كثيرة حول هذه القضية. لأن التشبه بالكفار في الظاهر يورث التشبه بهم في العقيدة أو مودتهم، ومسايرتهم وموافقتهم على هواهم مما يحدث التميع في حياة المسلم ويجعله إمعة يتبع كل ناعق، والله يريد له العزة والكرامة. وإذا تمعنا في طريقة التربية القرآنية: وجدنا أن الإسلام ربى المسلمين على العقيدة الصحيحة فترة طويلة قبل نزول التكاليف، فلما رست جذور هذه الشجرة المباركة في النفوس جاءت التكاليف واحداً إثر الآخر مما جعل المسلمين يترقون في هذا السلم التربوي الإيماني إلى الذروة.
من هنا جاء النهي عن التشبه بالكفار في العهد المدني. وذلك بعد الجهاد من أجل صيانة وحماية المجتمع الإسلامي من كل دخيل، وحرصاً على بناء الشخصية الإسلامية الفريدة. فكما أن هذه العقيدة فريدة في مضمونها وجوهرها فهي أيضاً فريدة في شكلها ومظهرها. لذا وجب على صاحبها أن يكون متميزاً بعد أن أخرجه الله من الظلمات إلى النور.
وتجتاح العالم الإسلامي اليوم موجة من التبعية الجارفة في كل شيء، ومن ذلك التشبه بالغرب الكافر من قبل ضعاف الإيمان الذين يرون أن ذلك الفعل هو سبيل التقدم والرقي!
وفي هذا يقول الأستاذ محمد أسد (… وإن السطحيين من الناس فقط ليستطيعوا أن يعتقدوا أنه من الممكن تقليد مدنية ما في مظاهرها الخارجية من غير أن يتأثروا في الوقت نفسه بروحها.
"إن المدنية ليست شكلاً أجوف فقط، ولكنها نشاط حي. وفي اللحظة التي نبدأ فيها. بتقبل شكلها تأخذ مجاريها الأساسية ومؤثراتها الفعالة تعمل فينا، ثم تخلع على اتجاهنا العقلي كله شكلاً ولكن ببطء ومن غير أن نلحظ ذلك.
ولقد قدر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الاختيار حق قدره حينـما قال: ((من تشـبه بقـوم فهـو منهم)) . وهذا الحديث المشهور ليس إيماءة أدبية فحسب، بل تعبير إيجابي يدل على أن لا مفر من أن يصطبغ المسلمون بالمدنية التي يقلدونها؟
"ومن هذه الناحية قد يستحيل أن نرى الفرق الأساسي بين "المهم" وبين غير المهم في نواحي الحياة الاجتماعية وليس ثمة خطأ أكبر من أن نفترض أن اللباس – مثلاً – شيء خارجي بحت وأن لا خوف منه على "حياة الإنسان" العقلية والروحية. إنه على وجه العموم نتيجة تطور طويل الأمد لذوق شعب ما في ناحية معينة وزي هذا اللباس يتفق مع الإدراك البديعي لذلك الشعب ومع ميوله. لقد تشكل هذا الزي ثم ما فتئ يبدل أشكاله باستمرار حسب التبدل الذي طرأ على خصائص ذلك الشعب وميوله. وبلبس الثياب الأوربية يوافق المسلم من غير شعور ظاهر بين ذوقه والذوق الأوربي ثم يشوه "حياته" العقلية بشكل يتفق نهائياً مع اللباس الجديد وبعمله هذا يكون (المسلم) قد تخلى عن الإمكانيات الثقافية لقومه، وتخلى عن ذوقهم التقليدي، وتقبل لباس العبودية العقلية الذي خلعته عليه المدنية الأجنبية.
" إذا حاكى المسلم أوروبة في لباسها، وعاداتها وأسلوب حياتها فإنه يتكشف عن أنه يؤثر المدنية الأوربية، مهما كانت دعواه التي يعلنها، وإنه لمن المستحيل عملياً أن تقلد مدنية أجنبية في مقاصدها العقلية والبديعية من غير إعجاب بروحها، وإنه لمن المستحيل أن تعجب بروح مدنية مناهضة للتوجيه الديني، وتبقى مع ذلك مسلماً صحيحاً.
(إن الميل إلى تقليد التمدن الأجنبي نتيجة الشعور بالنقص هذا ولا شيء سواه، ما يصاب به المسلمون الذين يقلدون المدنية الغربية)
وأصل المشابهة: أن الله جبل بني آدم – بل سائر المخلوقات – على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر: كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم. والمشاركة بين بني الإنسان أشد تفاعلاً فلأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم فاكتسب بعضهم، أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة.
والمشابهة في الأمور الظاهرة: توجب مشابهة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام
ثم إن المشاركة في الهدي الظاهر: توجب مناسبة وائتلافاً وإن بعد المكان والزمان وهذا أمر محسوس، بل إنها تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر.
وإذا كانت المشابهة في الأمور الدنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ نعم. إنها تقتضي إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد. والمحبة لهم تنافي الإيمان كما قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ المائدة: 51].
وثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم
وهنا لابد أن نورد بعض النصوص الكثيرة والمستفيضة من الكتاب والسنة التي نهت عن مشابهة الكفار واتباع أهوائهم.
منها قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [ الجاثية: 18-19].
قال الله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 16-19]
أخبر سبحانه، أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغياً من بعضهم على بعض.
ثم جعل محمداً صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته.
وأهواؤهم: هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك فهم يهوونه، وموافقتهم فيه، اتباع لما يهوونه، ولهذا: يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويسرون به، ويودون أن لو بذلوا عظيماً ليحصل ذلك، ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها، وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره، فإن " من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه " وأي الأمرين كان، حصل المقصود في الجملة، وإن كان الأول أظهر.
وفي هذا الباب قوله سبحانه: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ [الرعد: 36-37]. فالضمير في أهوائهم، يعود - والله أعلم - إلى ما تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه، فدخل في ذلك كل من أنكر شيئاً من القرآن: من يهودي، ونصراني، وغيرهما. وقد قال: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [ البقرة: 120] ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم، إتباع لأهوائهم، بل يحصل إتباع أهوائهم بما هو دون ذلك.
ومن هذا - أيضاً - قوله تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة: 120].
فانظر كيف قال في الخبر: مِلَّتَهُمْ وقال في النهي: أَهْوَاءهُم، لأن القوم لا يرضون إلا بإتباع الملة مطلقاً، والزجر وقع عن إتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين، نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه، كما تقدم.
ومن هذا الباب قوله سبحانه: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ [البقرة: 145- 150].
قال غير واحد من السلف: معناه، لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة، فيقولون: قد وافقونا في قبلتنا، فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، إذ الحجة: اسم لكل ما يحتج به من حق وباطل إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وهم قريش، فإنهم يقولون: عادوا إلى قبلتنا، فيوشك أن يعودوا إلى ديننا.
فبين سبحانه، أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها، مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم، ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فإن الكافر إذ اتبع في شيء من أمره، كان له في الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة.
وقال سبحانه: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] (وهم: اليهود والنصارى، الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته: ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، مع أن قوله: لا تكن مثل فلان، قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى، وإن لم يعم دل على أن جنس مخالفتهم، وترك مشابهتهم أمر مشروع: ودل على أنه - كلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا - كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها، وهذه مصلحة جليلة.
وقال سبحانه لموسى وهارون: قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [يونس: 89] وقال سبحانه: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] وقال تعالى: وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: 115] إلى غير ذلك من الآيات.
وما هم عليه من الهدي والعمل، هو من سبيل غير المؤمنين، بل ومن سبيل المفسدين، والذين لا يعلمون، وما يقدر عدم اندراجه في العموم، فالنهي ثابت عن جنسه، فيكون مفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي، ومقاربته مظنة وقوع المنهي عنه، قال سبحانه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ إلى قوله: وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة: 48-49] ومتابعتهم في هديهم، هي من اتباع ما يهوونه، أو مظنة لاتباع ما يهوونه وتركها معونة على ترك ذلك، وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه.
واعلم: أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه - كثير. مثل قوله، لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2]وقوله: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف: 111] وأمثال ذلك، ومنه ما يدل على مقصودنا، ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود.
ثم هذا الذي دل عليه الكتاب: من مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين، وذم من يفعل ذلك، دلت عليه - أيضاً - سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأول الآية - على ذلك - أصحابه رضي الله عنهم.
فمما جاء في الاستمتاع: حديث لتأخذن كما أخذت الأمم قبلكم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم: ذراعاً بذراع، وشبراً بشبر، وباعاً بباع، حتى لو أن أحداً من أولئك دخل جحر ضب لدخلتموه - قال أبو هريرة: اقرؤا - إن شئتم - كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً قالوا: يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلا هم؟)) .
وما أثر عن بعض الصحابة في ذلك.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، في هذه الآية، أنه قال: (ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: (أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتاً وهدياً، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا ؟) .
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم، وهؤلاء أعلنوه) .
ما أخذ به الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة من مشابهة أمته الماضين في الدنيا، وتحذيره من ذلك حديث أبي عبيدة، حين جاء بمال من البحرين
وأما السنة: فجاءت بالإخبار بمشابهتهم في الدنيا، وذم ذلك، والنهي عن ذلك، وكذلك في الدين.
فأما الأول: الذي هو الاستمتاع بالخلاق:
ففي (الصحيحين) - عن عمرو بن عوف: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين، يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول الله، فقال: أبشروا، وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) .
فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: أنه لا يخاف فتنة الفقر وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها، وإهلاكها، وهذا هو الاستمتاع بالخلاق المذكور في الآية.
خوف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته من فتنة الدنيا:
وفي (الصحيحين) - عن عقبة بن عامر: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج يوماً، فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض - أو مفاتيح الأرض - وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم: أن تتنافسوا فيها)) . وفي رواية: ((ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتلوا، - فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم)). قال عقبة: ((فكان آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر)) .
وفي (صحيح مسلم)، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نكون كما أمرنا الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، أو - تتباغضون، أو غير ذلك - ثم تنطلقون إلى مساكين المهاجرين، فتحملون بعضهم على رقاب بعض(( .
وفي (الصحيحين) - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: ((جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: إن مما أخاف عليكم بعدي: ما يفتح من زهرة الدنيا، وزينتها، فقال رجل: أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله ! قال: فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك؟ قال: ورأينا أنه ينزل عليه، فأفاق يمسح عنه الرحضاء وقال: أين هذا السائل؟ - وكأنه حمده - فقال: إنه لا يأتي الخير بالشر)) - وفي رواية - فقال: ((أين السائل آنفاً أو خير هو؟ - ثلاثاً - إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإن مما ينبت الربيع كما يقتل حبطا، أو يلم، إلا آكلة الخضر، فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت، ثم رتعت - وإن هذا المال خضر حلو، ونعم صاحب المسلم هو، لمن أعطى منه المسكين واليتيم، وابن السبيل -أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة(( .
خوف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته من فتنة النساء وأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء
وروى مسلم في (صحيحه)- عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله سبحانه، مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون؟ فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) .
فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة النساء، معللاً بأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.
وهذا نظير ما سنذكره: من حديث معاوية، عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم)) يعني وصل الشعر.
وكثير من مشابهات أهل الكتاب في أعيادهم وغيرها، إنما يدعو إليها النساء.
ومما جاء في الخوض: حديث افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين ملة.
وأما الخوض كالذي خاضوا: فروينا من حديث الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، حتى إذا كان منهم من أتى أمه علانية كان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) رواه أبو عيسى و الترمذي، وقال: هذا حديث غريب مفسر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وهذا الافتراق مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وسعد ومعاوية، وعمرو بن عوف، وغيرهم، وإنما ذكرت حديث ابن عمرو لما فيه من ذكر المشابهة.
حديث ثان في افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة: فعن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)) رواه أبو داود، و ابن ماجه، و الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح
حديث ثالث:
وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)). وقال: ((إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به)) .
هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو، عن الأزهر بن عبد الله الحرازي، عن أبي عامر - عبد الله بن لحي، عن معاوية، رواه عنه غير واحد، منهم أبو اليمان، و بقية و أبو المغيرة، رواه أحمد و أبو داود في ((سننه)).
وقد روى ابن ماجه هذا المعنى من حديث صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك الأشجعي، ويروى من وجوه أخرى، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة، واثنتان وسبعون: لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم.
الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين، أو في الدنيا، أو بهما معاً
ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: إما في الدين فقط، وإما في الدين والدنيا، ثم قد يؤول إلى الدماء، وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط.
وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث: هو مما نهى الله عنه في قوله سبحانه: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا [آل عمران: 105].
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] وقوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].
حديث: سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين:
وهو موافق لما رواه مسلم في (صحيحه)، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه: ((أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)) .
حديث: إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، و خوف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته من الأئمة المضلين، وإخباره صلى الله عليه وسلم إنه سيلحق حي من أمته بالمشركين، وتعبد فئام الأوثان، ويخرج فيهم ثلاثون كذابون يزعمون النبوة، وإنه لا تزال طائفة منهم على الحق منصورة.
وروى - أيضاً - في (صحيحه) عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي: أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً)) ورواه البرقاني في (صحيحه) وزاد: ((وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى)) .
وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة، والاختلاف، لا بد من قوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته، لينجو منه من شاء الله له السلامة، كما روى النزال بن سيرة، عن عبد الله بن مسعود قال: ((سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا)) رواه مسلم.
ومن ذلك: ما روى الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي أنه قال: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! إنها السنن، قلتم - والذين نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، لتركبن سنن من كان قبلكم)) . رواه مالك و النسائي و الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح - ولفظه ((لتركبن سنة من كان قبلكم)).
وقد قدمت ما خرجاه في (الصحيحين) - عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟، قال: فمن)) .
وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها: شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا أولئك)) .
وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك، والذم لمن يفعله، كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات.
فعلم أن مشابهتها اليهود والنصارى، وفارس والروم - مما ذمه الله ورسوله، وهو المطلوب، ولا يقال: فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك فما فائدة النهي عنه؟ لأن الكتاب والسنة - أيضاً - قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، ففي النهي عن ذلك تكثير هذه الطائفة المنصورة، وتثبيتها، وزيادة إيمانها، فنسأل الله المجيب: أن يجعلنا منها.
وأيضاً: لو فرض أن الناس لا يترك أحد منهم هذه المشابهة المنكرة، لكان في العلم بها معرفة القبيح، والإيمان بذلك، فإن نفس العلم والإيمان بما كرهه الله خير، وإن لم يعمل به، بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم، فإن الإنسان إذا عرف المعروف، وأنكر المنكر: كان خيراً من أن يكون ميت القلب، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))؟ رواه مسلم.
وفي لفظ: ((ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)). .
ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار: قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 104] قال قتادة وغيره: (كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم) وقال أيضاً: (كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم، راعنا سمعك يستهزؤن بذلك، وكانت في اليهود قبيحة).
وروى أحمد عن عطية قال: كان يأتي ناس من اليهود فيقولون: راعنا سمعك، حتى قالها ناس من المسلمين، فكره الله لهم ما قالت اليهود .
وقال عطاء: (كانت لغة في الأنصار في الجاهلية).
وقال أبو العالية: إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضاً يقول أحدهم لصاحبه: أرعني سمعك، فنهوا عن ذلك وكذلك قال الضحاك.
فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهى المسلمون عن قولها، لأن اليهود كانوا يقولونها - وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة - لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار، وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم.
وأما الإجماع فمن وجوه:-
- من ذلك أن أمير المؤمنين، عمر في الصحابة رضي الله عنهم، ثم عامة الأئمة بعده، وسائر الفقهاء - جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم، فيما شرطوه على أنفسهم: أن نوقر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا، إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء، من لباسهم: قلنسوة، أو عمامة أو نعلين، أو فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمله، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقادم رؤوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كان، وأن نشد الزنابير، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظهر صليباً، ولا كتباً، في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفياً، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين. رواه حرب بإسناد جيد.
وفي رواية أخرى رواها الخلال: وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً، في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، ولا القراءة في كنائسنا، فيما يحضره المسلمون، وأن لا نخرج صليباً، ولا كتاباً في سوق المسلمين، وأن لا نخرج باعوثاً - والباعوث: يخرجون يجتمعون كما يخرج يوم الأضحى والفطر - ولا شعانينا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وأن لا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور- إلى أن قال: وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسلمين، في لبس قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا.
وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم، وهي مجمع عليها في الجملة، بين العلماء من الأئمة المتبوعين، وأصحابهم، وسائر الأئمة، كذلك الشروط التي شرطها عمر بن عبد العزيز تقتضي منعهم من التشبه بالمسلمين.
وروى - أيضاً - أبو الشيخ بإسناده، عن محمد بن قيس، و سعد بن عبد الرحمن بن حبان قالا: دخل ناس من بني تغلب على عمر بن عبد العزيز عليهم العمائم كهيئة العرب، فقالوا يا أمير المؤمنين ألحقنا بالعرب قال: فمن أنتم؟ قالوا: نحن بنو تغلب، قال أولستم من أوسط العرب؟ قالوا نحن نصارى، قال علي بجلم ، فأخذ من نواصيهم، وألقى العمائم وشق رداء كل واحد شبراً يحتزم به، وقال: لا تركبوا السروج، واركبوا على الأكف، ودلوا رجليكم من شق واحد.
وعن مجاهد أبي الأسود قال: كتب عمر بن عبد العزيز: أن لا يضرب الناقوس خارجاً من الكنيسة، وعن معمر: أن عمر بن عبد العزيز كتب: أن امنع من قبلك، فلا يلبس نصراني قباء، ولا ثوب خز، ولا عصب وتقدم في ذلك أشد التقدم، واكتب فيه حتى لا يخفى على أحد نهي عنه، وقد ذكر لي أن كثيراً ممن قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم، وتركوا لبس المناطق على أوساطهم، واتخذوا الوفر والجمام وتركوا التقصيص، ولعمري إن كان يصنع ذلك فيما قبلك، إن ذلك بك ضعف وعجز، فانظر كل شيء كنت نهيت عنه، وتقدمت فيه، إلا تعاهدته وأحكمته ولا ترخص فيه، ولا تعْد عنه شيئاً.
فاتفق عمر رضي الله عنه، والمسلمون معه، وسائر العلماء بعدهم ومن وفقه الله تعالى من ولاة الأمور - على منعهم من أن يظهروا في دار الإسلام شيئاً مما يختصون به، مبالغة في أن لا يظهروا في دار الإسلام خصائص المشركين، فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها؟.
الوجه الثاني من دلائل الإجماع: أن هذه القاعدة قد أمر بها غير واحد من الصحابة والتابعين في أوقات وقضايا متعددة وانتشرت ولم ينكرها منكر من ذلك: نهى أبي بكر عن الصمت لغير سبب لأنه من فعل الجاهلية.
فعن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه، على امرأة من أحمس، يقال لها زينب فرآها لا تتكلم، فقال ما لها لا تتكلم؟. قالوا: حجت مصمته، فقال لها تكلمي، فإن هذا لا يحل، هذا عمل الجاهلية، فتكلمت فقالت من أنت؟ قال امرؤ من المهاجرين قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش قالت: من أي قريش؟ قال: إنك لسؤول، وقال: أنا أبو بكر، قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقامت لكم أئمتكم قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف، يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى قال: فهم أولئك على الناس. رواه البخاري في (صحيحه).
فأخبر أبو بكر: أن الصمت المطلق لا يحل، وعقب ذلك بقوله: هذا من عمل الجاهلية، قاصداً بذلك عيب هذا العمل، وذمه.
الوجه الثالث - في تقرير الإجماع:
ما ذكره عامة علماء الإسلام من المتقدمين، والأئمة المتبوعين وأصحابهم في تعليل النهي عن أشياء بمخالفة الكفار، أو مخالفة النصارى، أو مخالفة الأعاجم، وهو أكثر من أن يمكن استقصاؤه، وما من أحد له أدنى نظر في الفقه إلا وقد بلغه من ذلك طائفة، وهذا بعد التأمل والنظر، يورث علماً ضرورياً، باتفاق الأئمة، من النهي عن موافقة الكفار والأعاجم، والأمر بمخالفتهم.
فمن ذلك: أن الأصل المستقر عليه في مذهب أبي حنيفة: أن تأخير الصلاة أفضل من تعجيلها، إلا في مواضع يستثنونها، كاستثناء يوم الغيم، وكتعجيل الظهر في الشتاء - وإن كان غيرها من العلماء يقولون: الأصل أن التعجيل أفضل - فيستحبون تأخير الفجر والعصر، والعشاء والظهر إلا في الشتاء في غير الغيم. ثم قالوا: يستحب تعجيل المغرب، لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود، وهذا - أيضاً - قول سائر الأئمة، وهذه العلة منصوصة كما تقدم.
وقالوا - أيضاً - يكره السجود في الطاق، لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب، من حيث تخصيص الإمام بالمكان، بخلاف ما إذا كان سجوده في الطاق، وهذا - أيضاً - ظاهر مذهب أحمد وغيره، وفيه آثار صحيحة عن الصحابة - ابن مسعود، وغيره.
وقالوا: لا بأس أن يصلي وبين يديه مصحف معلق، أو سيف معلق، لأنهما لا يعبدان، وباعتباره تثبت الكراهة ولا بأس أن يصلي على بساط فيه تصاوير لأن فيه استهانة بالصورة، ولا يسجد على التصاوير لأنه يشبه عبادة الصور، وأطلق الكراهة في الأصل لأن المصلي معظم.
وقالوا: لو لبس ثوباً فيه تصاوير كره، لأنه يشبه حامل الصنم، ولا يكره تماثيل غير ذوي الروح لأنه لا يعبد.
وقالوا - أيضاً -: إن صام يوم الشك ينوي أنه من رمضان كره، لأنه تشبه بأهل الكتاب، لأنهم زادوا في مدة صومهم.
وقالوا: فإذا غربت الشمس أفاض الإمام والناس معه على هيئتهم حتى يأتوا مزدلفة، لأن فيه إظهار مخالفة المشركين.
وقالوا - أيضاً -: لا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة، للرجال، والنساء، للنصوص، ولأنه تشبه بزي المشركين، وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين.
وقالوا في تعليل المنع من لباس الحرير في حجة أبي يوسف و محمد على أبي حنيفة، في المنع من افتراشه وتعليقه والستر به، لأنه من زي الأكاسرة، والجبابرة، والتشبه بهم حرام.
قال عمر: إياكم وزي الأعاجم وقال محمد في الجامع الصغير: ولا يتختم إلا بالفضة.
قالوا: وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر، حرام، للحديث المأثور: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل خاتم صفر فقال: ما لي أجد منك ريح الأصنام ؟، ورأى على آخر خاتم حديد فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟)) .
ومثل هذا كثير في مذهب أبي حنيفة وأصحابه.
نماذج من أقوال المالكية:
وأما مذهب مالك وأصحابه، ففيه ما هو أكثر من ذلك، حتى قال مالك فيما رواه ابن القاسم في المدونة: لا يحرم بالأعجمية ولا يدعو بها ولا يحلف.
وقال: ونهى عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم وقال: إنها خب . قال: وأكره الصلاة إلى حجر منفرد في الطريق وأما أحجار كثيرة فجائز. قال: ويكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب يوم السبت والأحد. قال: ويقال من تعظيم الله تعظيم ذي الشيبة المسلم، قيل: فالرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه؟ قال: أكره ذلك ولا بأس بأن يوسع له في مجلسه، قال: وقيام المرأة لزوجها حتى يجلس من فعل الجبابرة وربما يكون الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا، فليس هذا من فعل الإسلام، وهو فيما ينهى عنه من التشبه بأهل الكتاب والأعاجم، وفيما ليس من عمل المسلمين، أشد من عمل الكوفيين وأبلغ، مع أن الكوفيين يبالغون في هذا الباب، حتى تكلم أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في لباسهم وأعيادهم.
وقال بعض أصحاب مالك: من ذبح بطيخة في أعيادهم، فكأنما ذبح خنزيرا، وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا هذا الأصل في غير موضع من مسائلهم، مما جاءت به الآثار، كما ذكر غيرهم من العلماء، مثل ما ذكروه في النهي عن الصلوات في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها - مثل طلوع الشمس وغروبها - ذكروا تعليل ذلك بأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، كما في الحديث: ((إنها ساعة يسجد لها الكفار)) .
وذكروا في السحور وتأخيره: أن ذلك فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، وذكروا في اللباس النهي عما فيه تشبه الرجال بالنساء، وتشبه النساء بالرجال.
وذكروا - أيضاً - ما جاء من أن المشركين كانوا يقفون بعرفات إلى اصفرار الشمس، ويفيضون من جمع بعد طلوع الشمس، وأن السنة جاءت بمخالفة المشركين في ذلك بالتعريف إلى الغروب، والوقوف بجمع إلى قبيل طلوع الشمس، كما جاء في الحديث: ((خالفوا المشركين)) و(خالف هدينا هدي المشركين). وذكروا - أيضاً - الشروط على أهل الذمة، منعهم عن التشبه بالمسلمين في لباسهم وغيره، مما يتضمن منع المسلمين أيضاً عن مشابهتهم في ذلك، تفريقاً بين علامة المسلمين وعلامة الكفار.
نماذج من أقوال الشافعية:
وبالغ طائفة منهم، فنهوا عن التشبه بأهل البدع، فيما كان شعاراً لهم، وإن كان مسنوناً،كما ذكره طائفة منهم في تسنيم القبور، فإن مذهب الشافعي: أن الأفضل تسطيحها.
ومذهب أحمد و أبي حنيفة: أن الأفضل تسنيمها.
ثم قال طائفة من أصحاب الشافعي، بل ينبغي تسنيمها في هذه الأوقات، لأن الرافضة تسطحها ففي تسطيحها تشبه بهم فيما هو شعار لهم.
وقالت طائفة: بل نحن نسطحها، فإذا سطحناها لم يكن تسطيحها شعاراً لهم. فالتفت الطائفتان على النهي عن التشبه بأهل البدع فيما هو شعار لهم، وإنما تنازعوا في أن التسطيح هل يحصل به ذلك أم لا؟.
فإن كان هذا في التشبه بأهل البدع، فكيف بالكفار؟.
نماذج من أقوال الحنابلة:
وأما كلام أحمد وأصحابه في ذلك فكثير جداً، أكثر من أن يحصر، قد قدمنا منه طائفة من كلامه عند ذكر النصوص، عند قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) ، وقوله: ((أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى، لا تشبهوا بالمشركين)) . قوله: ((إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) .
ومثل قول أحمد: ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب ولا يتشبه بأهل الكتاب، وقال لبعض أصحابه: أحب لك أن تخضب ولا تشبه باليهود، وكره حلق القفا وقال: هو من فعل المجوس من تشبه بقوم فهو منهم وقال: أكره النعل الصرار، وهو من زي العجم.
وكره تسمية الشهور بالعجمية، والأشخاص بالأسماء الفارسية مثل: آذرماه، وقال للذي دعاه: زي المجوس، زي المجوس؟ ونفض يده في وجهه وهذا كثير في نصوصه لا يحصر.
وقال حرب الكرماني: قلت لـ أحمد: الرجل يشد وسطه بحبل ويصلي؟ قال: على القباء لا بأس به، وكرهه على القميص، وذهب إلى أنه من زي اليهود، فذكرت له السفر، وأنا نشد ذلك على أوساطنا، فرخص فيه قليلاً، وأما المنطقة والعمامة ونحو ذلك، فلم يكرهه إنما كره الخيط، وقال: هو أشنع.
قلت: وكذلك كره أصحابه أن يشد وسطه على الوجه الذي يشبه فعل أهل الكتاب. فأما ما سوى ذلك: فإنه لا يكره في الصلاة على الصحيح المنصوص، بل يؤمر من صلى في قميص واسع الجيب أن يحتزم، كما جاء في الحديث، لئلا يرى عورة نفسه، وقال الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيره، منهم: القاضي أبو يعلى و ابن عقيل، والشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي، وغيره، في أصناف اللباس وأقسامه:- ومن اللباس المكروه: ما خالف زي العرب، وأشبه زي الأعاجم وعادتهم، ولفظ عبد القادر: ويكره كل ما خالف زي العرب، وشابه زي الأعاجم.
وقال أيضاً أصحاب أحمد وغيرهم، منهم أبو الحسن الآمدي المعروف بـ ابن البغدادي - وأظنه نقله أيضاً عن أبي عبد الله بن حامد -: ولا يكره غسل اليدين في الإناء الذي أكل فيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وقد نص أحمد على ذلك، وقال: لم يزل العلماء يفعلون ذلك ونحن نفعله وإنما تنكره العامة، وغسل اليدين بعد الطعام مسنون، رواية واحدة.
وإذا قدم ما يغسل فيه اليد، فلا يرفع حتى يغسل الجماعة أيديها لأن الرفع من زي الأعاجم، وكذلك قال الشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي: ويستحب أن يجعل ماء اليد في طست واحد، لما روى في الخبر: ((لا تبددوا يبدد الله شملكم)).
وروي ((أنه صلى الله عليه وسلم: نهى أن يرفع الطست حتى يطف)) يعني يمتلئ.
وقالوا أيضاً - ومنهم أبو محمد عبد القادر - في تعليل كراهة حلق الرأس، على إحدى الروايتين، لأن في ذلك تشبهاً بالأعاجم، وقال صلى الله عليه وسلم
)من تشبه بقوم فهو منهم)( .
بل قد ذكر طوائف من الفقهاء من أصحاب الشافعي و أحمد وغيرهما: كراهة أشياء لما فيها من التشبه بأهل البدع، مثل ما قال غير واحد من الطائفتين - ومنهم عبد القادر-: ويستحب أن يتختم في يساره للآثار، ولأن خلاف ذلك عادة وشعار للمبتدعة.
وحتى إن طوائف من أصحاب الشافعي، استحبوا تسنيم القبور، وإن كانت السنة عندهم تسطيحها، قالوا: لأن ذلك صار شعاراً للمبتدعة، وليس الغرض هنا تقرير أعيان هذه المسائل، ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات، وإنما الغرض بيان ما اتفق عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام.
وقد يتردد العلماء في بعض هذه القاعدة، لتعارض الأدلة فيها، أو لعدم اعتقاد بعضهم اندراجه في هذه القاعدة، مثل ما نقله الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن لبس الحرير في الحرب؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس.
قال: وسمعت أبا عبد الله يسأل عن المنطقة والحلية فيها؟ فقال: أما المنطقة فقد كرهها قوم، يقولون: من زي العجم، وكانوا يحتجزون العمائم.
وهذا إنما علق القول فيه، لأن في المنطقة منفعة عارضت ما فيها من التشبه، ونقل عن بعض السلف أنه كان يتمنطق، فلهذا حكى الكلام عن غيره وأمسك.
ومثل هذا هل يجعل قولاً له إذا سئل عن مسألة فحكى فيها جواب غيره ولم يردفه بموافقة ولا مخالفة؟ فيه لأصحابه وجهان:
أحدهما: نعم، لأنه لولا موافقته له لما كان قد أجاب السائل، لأنه إنما سأله عن قوله، ولم يسأله أن يحكي له مذاهب الناس.
والثاني: لا يجعل بمجرد ذلك قولاً له، لأنه إنما حكاه فقط، ومجرد الحكاية لا يدل على الموافقة.
وفي لبس المنطقة أثر، وكلام ليس هذا موضعه.
ولمثل هذا - تردد كلامه في القوس الفارسية، فقال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن القوس الفارسية؟ فقال: إنما كانت قسي الناس العربية ثم قال: إن بعض الناس احتج بحديث عمر رضي الله عنه: ((جعاب وأدم)) , قلت: حديث أبي عمرو بن حماس؟ قال: نعم، قال أبو عبد الله يقول: فلا تكون جعبة إلا للفارسية، والنبل فإنما هو قرن.
قال الأثرم: قلت لـ أبي عبد الله: في تفسير مجاهد، قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: 5] قال: كالجعبة للنبل، قال: فإن كان يسمي جعبة للنبل، فليس ما احتج به الذي قال هذا بشيء، ثم قال: ينبغي أن يسأل عن هذا أهل العربية.
قال أبو بكر: قيل لـ أبي عبد الله: الدراعة يكون لها فرج؟ فقال: كان لـ خالد بن معدان دراعة لها فرج من بين يديها قدر ذراع، قيل لـ أبي عبد الله: فيكون لها فرج من خلفها؟ قال: ما أدر