وهي: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تثبت أسماء الله وصفاته بغيرهما وعلى هذا فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب أو السنة وجب إثباته، وما ورد نفيه فيهما وجب نفيه، مع إثبات كمال ضده، وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه فلا يثبت ولا ينفى لعدم ورود الإثبات والنفي فيه وأما معناه فيفصل فيه، فإن أريد به حق يليق بالله تعالى فهو مقبول وإن أريد به معنى لا يليق بالله عز وجل وجب رده.
فمما ورد إثباته لله تعالى: كل صفة دل عليها اسم من أسماء الله تعالى دلالة مطابقة، أو تضمن، أو التزام ومنه كل صفة دل عليها فعل من أفعاله كالاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين عباده يوم القيامة، ونحو ذلك من أفعاله التي لا تحصى أنواعها فضلاً عن أفرادها وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] ومنه: الوجه، والعينان، واليدان ونحوها ومنه الكلام، والمشيئة، والإرادة بقسميها: الكوني، والشرعي فالكونية بمعنى المشيئة، والشرعية بمعنى المحبة ومنه الرضا، والمحبة، والغضب، والكراهة ونحوها ومما ورد نفيه عن الله سبحانه لانتفائه وثبوت كمال ضده: الموت، والنوم، والسنة، والعجز، والإعياء، والظلم، والغفلة عن أعمال العباد، وأن يكون له مثيل أو كفؤ ونحو ذلك ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ (الجهة) فلو سأل سائل هل نثبت لله تعالى جهة؟ قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتاً ولا نفياً، ويغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء وأما معناه فإما أن يراد به جهة سفل أو جهة علو تحيط بالله أو جهة علو لا تحيط به فالأول باطل لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة، والعقل والفطرة، والإجماع والثاني باطل أيضاً؛ لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته والثالث حق؛ لأن الله تعالى العلي فوق خلقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته ودليل هذه القاعدة السمع والعقل فأما السمع فمنه قوله تعالى:وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155] وقوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158] وقوله: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] وقوله: مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً [النساء:80] وقوله: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59] وقوله: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [المائدة:49].
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن والسنة وكل نص يدل على وجوب الإيمان بما جاء في القرآن فهو دال على وجوب الإيمان بما جاء في السنة؛ لأن مما جاء في القرآن الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والرد إليه عند التنازع والرد إليه يكون إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته فأين الإيمان بالقرآن لمن استكبر عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم المأمور به في القرآن؟ وأين الإيمان بالقرآن لمن لم يرد النزاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر الله به في القرآن؟ وأين الإيمان بالرسول الذي أمر به القرآن لمن لم يقبل ما جاء في سنته؟
ولقد قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] ومن المعلوم أن كثيراً من أمور الشريعة العلمية والعملية جاء بيانها بالسنة، فيكون بيانها بالسنة من تبيان القرآن وأما العقل فنقول: إن تفصيل القول فيما يجب أو يمتنع أو يجوز في حق الله تعالى من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، فوجب الرجوع فيه إلى ما جاء في الكتاب والسنة
وإن الشرع قد دل الناس على الطرق العقلية بأيسر طريق وأحسنه، فأكثر الأدلة الشرعية فيها إرشاد للناس للطرق العقلية لتقرير الإلهيات والنبوات والبعث والمعاد .
وما يتعلق بهذا الباب فإنه لابد من طلب الهدى فيه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتعرف الطريقة الشرعية في الإثبات والتنزيه، إذ لا أحد أعلم بالله من الله ولا أحد أعلم به من خلقه من رسوله صلى الله عليه وسلم.
والأسماء والصفات من أعظم المسائل التي يجب فيها الاتباع، وقد قال الله تعالى: اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء [الأعراف: 3]، وأمر الله تعالى برد التنازع إلى كتابه وإلى رسوله فقال: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59]، وأقسم سبحانه على عدم إيمان من لم يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يذعن ويسلم له فقال: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء: 65].
ففي هذه الأدلة الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله وأتباع ما أنزل وترك غيره ورد النزاع إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا إلى غيرهما.
والذي يدعو إلى القول بالاكتفاء بالكتاب والسنة أمور منها:
الأمر الأول: إن الكلام الشرعي لا يخشى فيه جهل ولا خطأ ولا تقصير في البيان ولا كذب، إذ هو كما قال الله تعالى عن كتابه: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]، والجهل والخطأ والتقصير في البيان والكذب والتلبيس كل ذلك من الباطل، وقد نص الله على نفيه عن كتابه، وأثبت العصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4]، ولا شك أن كلام الله تعالى يجب أن يكون مقدماً في هذا الباب إذ هو أعلم بنفسه فقال: أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ [البقرة: 140]، ونفى إحاطة الناس بالعلم به فقال: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه: 110]، ووصف كلامه بأنه أحسن الحديث وأصدق الحديث فقال: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا [النساء: 87]، وقال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ [الزمر: 23]. ووصفه بذلك يقتضي سلامته من الخطأ في الأخبار والأحكام ويقتضي كذلك أنه مشتمل على أحسن طريق لدلالة الناس وإرشادهم وهدايتهم.
ويزيد الأمر وضوحاً: أن الذي خلق هو الذي أنزل الشرع، فهو أعلم بما يناسبهم من السبل الموصلة إلى الحق، ذلك أن الله تعالى قد فطر الخلق على الإقرار به والميل إلى الحق وجعلهم مستعدين لقبوله – إلا إذا تغيرت الفطرة – فظهر من هذا أن الله الذي أنزل الكتاب هو الذي هيأ خلقه لمعرفة أصل الإيمان وفروعه بالشرع، قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الروم: 30-31].
فالله عز وجل أعد للناس ما يسددهم ويوصلهم إلى طريق الحق من الفطرة والآيات الظاهرة في الآفاق والأنفس فإذا انقاد الناس واستضاءوا بنور الشرع فإنهم يأمنون ما يخشى من قصور العقل المجرد وحده فيه خاصة إذا علم أن النفوس متحركة بإراداتها وأنها قد تفسد وتتغير، فالضلال وعدم العلم إذا يرجع إلى أمرين :
الأول: ما يطرأ على الفطرة من التغيير وما يغشاها من الانحراف، فتنصرف بذلك عما هي معدة له من التوصل إلى الحق وقبوله، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم، فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30])) لذلك فإن من سلمت فطرته يكون مستعداً لقبول الشرع، ولا يمكن أن يتبادر إلى ذهنه بحال أن ما ذكره الله تعالى من الصفات وذكره عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أن ظاهره يستلزم التشبيه والتمثيل، بل يعلم أن ذلك يثبت على غاية الكمال والتنزيه.
الثاني: الإعراض عن الشرع المكمل للمعرفة الفطرية والمجلي لها عما يغشاها من الانحراف والتغيير، يقول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ [الشورى: 52-53].
فإذا اجتمع الأمران – تغيير الفطرة والإعراض عن الشرع – في شخص كان في غاية الضلال والعياذ بالله.
فإذا علم أن الله قد فطر الناس على الحق وأنزل إليهم ما يناسبهم علم أن الناس في غنى عن الكلام الذي عند إطلاقه قد يتضمن باطلاً، مثل علم الكلام الذي يقوم على الأوهام والشكوك وإن سماها علماء الكلام بالقواطع العقلية والبراهين، فإن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا ولم يعرفوا الكلام عن طريقة الجواهر والأعراض والمقاييس المنطقية والنظر العقلي المتعمق البعيد عن الفطرة. وفي هذا الصدد يقول أبو الوفاء بن عقيل لبعض أصحابه: (أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت، وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك وكثير منهم إلى الإلحاد، تشم روائح الإلحاد من فلتات المتكلمين، وأصل ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع وطلبوا الحقائق وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكمة التي انفرد بها، ولا أخرج الباري من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأمور) .
ولزيادة البيان فإنه يقال: إن الله قد أكمل دينه، وشهد على خيرية القرن الأول، ففي إكمال الدين والشهادة بأن الصحابة كانوا خير الناس الدليل الواضح والحجة القاطعة بأن جميع العقائد المطلوب معرفتها في الإسلام كانت مبينة وحاصلة لهم.
أما إكمال الدين فإن الله تعالى قد قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]، فوضح من هذا أن الناس لا يحتاجون إلى شيء في أمور دينهم إلى نقل سوى القرآن والسنة بله الفلسفات الإلهية اليونانية، وقد جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم)) . فأنزل الله عز وجل: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 51]، وقيل إنها نزلت في المشركين حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آية تدل على صدقه، فبين الله تعالى أن في كتابه الكفاية. بل إن الله تعالى وصف كتابه بأنه برهان وشهد بذلك وكفى بالله شهيداً فقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا [النساء: 174]، فالطريقة الاستدلالية البرهانية الصحيحة هي الطريقة الشرعية المبينة لمطالب الدين كلها والواعدة بكل خير والداعية إليه.
وأما كمال إيمان الصحابة رضوان الله عليهم فقد قال تعالى عنهم: وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 74] وقال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران: 110] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني...)) ، وتمسكهم بالكتاب والسنة معلوم، وقد أخذوا من ذلك حظاً وافراً فاستحقوا تلك الخيرية المنصوص عليها. ولم يؤثر عنهم الخوض فيما خاض فيه المتأخرون مع قدرتهم على البيان لفصاحتهم ورجحان عقولهم، ولم يكونوا يعدلون عن النصوص الشرعية مهما أثيرت الشبهات، فإن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – لما ذكر له كلام بعض الناس وخوضهم في القدر تبرأ منهم واكتفى بذكر حديث جبريل عليه السلام في الإسلام والإيمان والإحسان ... فهذا يدل على اعتصامهم بالشرع، وأن الشرع هو الحق وأنه قد جاء بإثبات الصفات لله على الوجه اللائق به.
ثم إن التابعين الذين أخذوا العلم عن الصحابة، وهم خير من جاء بعدهم لم يكونوا يعدلون عن الأدلة الشرعية ولم يقولوا فيها إنها ظنية، بل كلامهم في ذم الكلام وأهله وهجر المبتدعة مشهور. وهكذا من جاء بعدهم إلى زمان الأئمة الأربعة ومن تبعهم بإحسان يقولون بهذا الأصل العظيم.
الأمر الثاني: مما يدعو إلى الاكتفاء بالشرع:
هو أن مسائل الإيمان بالأسماء والصفات من المسائل الغيبية التي لا يمكن أن تعرف إلا بالخبر الصادق، والخبر الصادق يأتي ببيان الأسماء والصفات، ويأتي كذلك بطرق إثباتها من الطرق العقلية الواضحة – ويبين طريقة الإثبات والتنزيه فيها.
أما ما عدا ذلك فعلوم مأخوذة من فلاسفة اليونان دخلت على المسلمين فأحدثت بينهم شراً مستطيراً، فنشأت الفرق، وكلها متناحرة مختلفة فيما بينها، مخالفة للكتاب والسنة، بل إن الفرقة الواحدة يؤثر عنها في المسألة الواحدة أكثر من قول، وهذا حال كل من ابتغى الهدى في غير كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فدخول هذه العلوم كان شراً لا شك فيه، ومن شرها أنه قد تسلط بها بعض أعداء الإسلام في النيل منه، ذلك لأن بعض من أخذ هذه العلوم من المسلمين حاول تطبيق ما ورد في الشرع على تلك الأصول الفاسدة، فيؤول به الأمر إلى إنكار الصفات وغير ذلك، كما هو الشأن في إثبات وجود الله تعالى، إذ يقوم عندهم دليل إثباته على أصل فاسد وهو منع قيام الحوادث بذات الباري، ففرعوا على هذا: القول بنفي الصفات الاختيارية عنه ... فيكثر عندئذ التناقض، ويلتزمون شنائع يتسلط بها عليهم بعض أعداء الإسلام.
ولهذا الاضطراب الواقع والحيرة الشديدة تراجع بعض كبار علماء الكلام عما خاضوا فيه مسلمين للسلف طريقتهم ...
فكيف بعد هذا يوثق بعلوم هؤلاء الفلاسفة، وقد اجتمعت الأمور الآتية:
1- النهي عن متابعة غير الكتاب والسنة.
2- ونهي الأئمة عن علم الكلام لاشتماله على الباطل.
3- وحيرة وتردد من خاض فيه من الكبار