استغل أحمد عطلته السنوية لزيارة أخته في الدار البيضاء، فمكث عندها بضعة
أيام كان يتردد خلالها على مسجد الحي. وكان طبعه الاجتماعي يفرض عليه
الجلوس إلى الناس وتبادل الحديث معهم، فألفهم وألفوه.
ارتاح أحمد
لأحدهم، وأحبه لطيبوبته وحسن حديثه، فتذكر ما سمعه يوما في جلسة إيمانية مع
بعض أصدقائه أن من أحب شخصا لله فعليه أن يخبره امتثالا لقوله صلى الله
عليه وسلم:” إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليبين له، فإنه خير في الألفة،
وأبقى في المودة “.
انتظر أحمد صاحبه بباب المسجد بعد صلاة عشاء حتى خرج وقال له:
ü لقد انتظرتك يا أخي لأخبرك أني أحببتك في الله، وأسأل الله أن يجمعنـا في رحمته يوم القيامة.
لم يعـرف صالح كيف يتصرف أمام هذا الوضع ولا بما يجيب، فصافح أحمد مصافحة الخل لخليله، وقبله قبلات حارة، وقال له:
ü لابد أن تسهر معي هذه الليلة في بيتي لنتعارف أكثر.
لم يجد أحمد بُدّا من قبول دعوة صالح، فاستجاب له وذهب معه.
دخلا قاعة الضيافة، وجلسا يتبادلان أطراف الحديث في انتظار الطعام.
لقد كان تعارفهما في المسجد لا يتجاوز معرفة الاسم، فكانت فرصة للتعارف أكثر، فبادر صالح ليسأل أحمد عن نفسه وعمله.
استرسل أحمد في الكلام، وأخبر صاحبه بأنه يسكن مدينة كلميم، وأنه موظف في
البريد وأخبره عن سنه وعدد أولاده ومستواه الثقافي، ثم أعطاه فكرة عن باب
الصحراء وعن المدن المجاورة لها، وحدثه عن بعض عادات وتقاليد سكان المنطقة.
لم يكد أحمد يُنْه كلامه حتى جاء طفل بالطعام، فسكت حتى استقر الوضع ثم سأل صاحبه بدوره عن نفسه.
وبعد أن صرح صالح باسمه وسنه وأصله وعدد أولاده قال:
ü وإنني أعمل في مصنع للخمور.
نزلت هذه الجملة على أحمد كالصاعقة، فبدأ ينظر إلى صاحبه نظرة استغراب، ثم أخرج ما بقي في فمه من طعام ووضعه على المائدة وقال :
ü
ألا تعلم يا صاحبي أن الخمر حرام في ديننا الحنيف. ألا
تعلم قول الله تعالى في سورة المائدة:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلاَمُ رِجْسٌ
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. وهل
لا تعلم ما رواه الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول:” أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله لعن
الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وشاربها وآكل ثمنها وحاملها
والمحمولة إليه وساقيها ومستقيها “.
وسكت أحمد مليا ثم قال:
ü أفسح لي الطريق للخروج هداني الله وإياك إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، فأنا لا أستطيع أن آكل حراما.
جلس صالح وحده أمام مائدته، ينظر إلى طعامه وصدى كلام أحـمد يتردد على
أذنيه، ثم صرخ صرخة قوية وهو يقول: لا..لا..، حتى اجتمع حوله أبناؤه فقال
لهم:
ü ارفعوا عني هذا الطعام، ارفعوا عني هذا السحت.
لم ينم صالح طول الليل، ولم يهدأ له بال، بل بات يُؤنِّب نفسه ويقول:
ü
لقد عشت سنين على الحرام، آكله وأوكله أبنائي، ولم
أنتـه ولم أتب. وهذا الرجل الطيب أبى أن يأكل منه لقمة واحدة، أخرجها من
فمه رغم كونه بريء منها ومن مصدرها. فاللهم اجعل لي مخرجا، اللهم اجعل لي
مخرجا.
مضت أشهر على هذا الحدث، وذات صباح وأحمد يعمل في مكتبه،
إذا بشخص بالباب يستأذنه بالدخول، فأذن له. فإذا به صالح يلقي عليه تحية
أهل الجنة ويعانقه ويقبله.
لم يكن أحمد ينتظر هذا، لكنه قام من مقعده وعانق صالحا وقبله وقدم له مقعدا ليجلس وهو يقول له:
ü ما الذي جاء بك إلى مدينة كلميم ؟
ü جئت لزيارتك.
ü أهلا ومرحبا بك يا أخي.
ü جئت لأحكي لك ما وقع لي بعد تلك الليلة.
ü
أتمنى أن يكون خيرا. وسأستمع إليك في المنزل بعد أن
أنهي عملي، فإنها مصالح الناس، ولا مناص من إنجازها في وقتها.
انتهى وقت العمل، وعاد أحمد إلى بيته صحبة صالح، ثم جلس يستمع إليه وهو يقول:
ü
لقد قضيت تلك الليلة بعد خروجك في حساب وعذاب؛ حاسبت
نفسي ووزنت عملي، فوجدتني أعيش في الظلام وآكل الحرام، وليس لي مكان في دار
السلام، يوم لقاء خالق الأنام، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله
بقلب سليم. وبتّ الليلة في عذاب خوفا من أن تدركني منيتي قبل أن أتوب إلى
الله جل شأنه. ومن صباح اليوم الموالي وأنا أبحث عن عمل حلال، وبعد شهرين
من المعانات يسر لي الله عز وجل عملا في معمل للسكر، ففرج كربتي وأسأله أن
يقبل توبتي ويغفر لي زلتي. وأسأله أن يتقبل منك، فأنت السبب، أنت من أنبني
ونصحني، فجزاك الله خيرا، وأسأله أن ينطبق عليك قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم:” لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم “
ولقد جئتك أخي لأبشرك بتوبتي على يدك، ولنجعلها بداية أخوة جديدة مبنية على
الحب في الله والنصح لله عسى أن نكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله
يوم لا ظل إلا ظله.