إذا وقفت أمام إحدى المحاكم المختصة بالأحوال الشخصية، فلن يصدمك فقط
مشهد المتخاصمين من الأزواج والزوجات، ولا تفاصيل قضايا الطلاق المرفوعة
من النساء ضد الرجال، وما يتم تبادله من إفشاء لإسرار العلاقات الزوجية،
أو حتى الادعاءات المتبادلة بين الزوجين، ولا حجم الاتهامات وربما
الأكاذيب التي يكيلها كل طرف للآخر وعنه...
إذا وقفت أمام إحدى المحاكم المختصة بالأحوال الشخصية، فلن يصدمك فقط
مشهد المتخاصمين من الأزواج والزوجات، ولا تفاصيل قضايا الطلاق المرفوعة من
النساء ضد الرجال، وما يتم تبادله من إفشاء لإسرار العلاقات الزوجية، أو
حتى الادعاءات المتبادلة بين الزوجين، ولا حجم الاتهامات وربما الأكاذيب
التي يكيلها كل طرف للآخر وعنه، فربما كانت هذه الصورة هي أقل مشاهد حالات
الطلاق قسوة وألما، فثمة صورة أخرى لأمهات وآباء هرعوا إلى المحكمة لأن
الانفصال حرمهم من رؤية فلذات أكبادهم، فما إن يحدث الانفصال، إلا وتبدأ
الحرب وتصفية الحسابات بين الزوجين المنفصلين، وليس ثمة سلاح في نظر كل
منهما أقوى وأشد فتكا بنفسية الطرف الآخر من سلاح الأبناء، فما إن يحكم
لطرف بحضانة الأبناء إلا ويبدأ في التعسف ضد الطرف الآخر في مسألة الرؤية،
لكن السؤال أو الأسئلة التي نسعى للبحث عن إجابة لها هي: كيف تؤثر ما يمكن
تسميتها بـ " حرب الرؤية " بين الآباء والأمهات المنفصلين على الحالة
النفسية والسلوكية للأبناء؟ وما هو الموقف القانوني لمن يتعنت في حق الرؤية
ضد الطرف الآخر، وماذا عن موقف الشريعة الإسلامية بالنسبة للآباء والأمهات
الذين يرتكبون هذه الجريمة ؟ ...
من المهم أن نشير أولا إلى أن حجم هذه المشكلة التي يتعرض لها الأبناء
بسبب صراع الآباء والأمهات كبير وفي تزايد مستمر، لأنه مرتبط بعدد حالات
الطلاق في مجتمعاتنا، وهي في تزايد مطرد، ويكفي أن نعرف أن في مصر على سبيل
المثال هناك حالة طلاق تقع كل ثلاث دقائق، وتتركز حالات الطلاق فى المدن
بنسب أكبر من مثيلاتها فى الريف، ويتضح من الإحصائية أن كل 4 - 5 حالات
زواج تمت فى جمهورية مصر العربية عام 2009 وقعت حالة طلاق بنسبة تقترب من
25%، أما في المملكة العربية السعودية على سبيل المثال، وطبقا لأحدث
الأرقام المنشورة، فإن 66 حالة طلاق تقع يوميا في المملكة، أي بمعدل يصل
إلى نحو ثلاث حالات طلاق كل ساعة.
الدكتورة حنان محمود الباحثة النفسية بالمركز القومي للطفولة، تؤكد أن ما
يمكن تسميته " بحرب الحضانة والرؤية " بين الزوجين المنفصلين أصبح شائعا
الآن، وكثيرا ما تأتينا شكاوى من أمهات رفض الآباء تنفيذ حكم المحكمة لهن
برؤية أبناهن المحضونين لدى الوالد، وهناك حكايات يندى لها الجبين في هذا
الموضوع، كذلك الأب الذي سافر إلى خارج البلاد بابنه لأنه يعمل بالخارج
ويرفض حتى ذهابه إلى أمه خلال الأجازة السنوية، معتبرا ذلك هو العقاب
المناسب لأنها تزوجت من غيره بعد طلاقه لها، والأمر لا يختلف بالنسبة
للآباء المحرومين من رؤية أولادهم المحضونين لدى الأم، فأحد الآباء ورغم
حصوله على حكم من المحكمة، إلا أنه لم ير ابنته منذ أن كان عمرها 4 أشهر
وقت الانفصال عن الأم، حتى بلغت الآن من العمر عامين.
صراع نفسيوتضيف د. حنان إن مآسي الآباء والأمهات كثيرة، لكن الأكثر مأساوية هو ما
يحدث للطفل ويصاب به من أمراض جراء هذه الحرب غير الإنسانية بين والديه
المنفصلين، فالأولاد لا يكونون بمعزل عن الصراع، بل يتابعون تفاصيله،
ويتابعون حركة القضايا والقضايا المضادة بين الأب والأم، و قد يُستقطب
الأبناء ناحية أحد الوالدين نتيجة لعمليات غسل المخ التي تجرى لهم ممن هم
في حضانته سواء كان الأب أو كانت الأم، ليدخلوا في صراع مع الآخر، هو ما
يصيبهم بأمراض ومشكلات نفسية متعددة، فقد يحدث لديهم اضطرابات في النوم أو
أحلام مفزعة، وقد يفقدون الشهية أو يفرطون في تناول الطعام، وهو ما يترتب
عليه تغيرات في الوزن بالنقص أو الزيادة، كما يمكن أن يصاب الأبناء
بالتبول اللاإرادي، وهو مرض نفسي يشعر الطفل وخصوصا إذا ما كان في سن كبيرة
نوعا ما بالمهانة الشخصية، والإحساس بالخجل والرغبة في الانعزال عن
المجتمع.
وإضافة إلى هذه الأمراض النفسية التي يمكن أن يصاب بها " أبناء حرب الحضانة
والرؤية "، هناك أيضا سلوكيات منحرفة قد يلجأون إليها بسبب ما يحدث، فقد
تؤدي هذه الحرب إلى هروب الأولاد من البيت أو من المدرسة، وقد يندفعون نحو
الأقران بحثا عن الحب والأمان لديهم، وقد يتعاطون المخدرات أو المسكرات,
هربا من الألم النفسي ومن الشعور بالتعاسة والإحباط وبحثا عن لذة حتى لو
كانت زائفة، وقد يتورطون في علاقات خطرة, بحثا عن الدفء الإنساني الذي
افتقدوه داخل البيت.
فالأولاد في هذه الحالات عرضة لكل هذه الأمراض والانحرافات، لأن الوالدين
أحدهما أو كلاهما، أضاف إلى التأثيرات السلبية للانفصال على الأولاد،
تأثيرات نفسية سلبية أكبر عليهم، نتيجة افتقادهم لرؤية الأب أو الأم
والتمتع بحنانهم ولو لوقت قصير، وكذلك كونهم جزءا من صراع وأداة لحرب بين
الأبوين.
وتشدد د.حنان على الوالدين أن يدرك كل منهما أن مصلحة الطفل فوق كل خلاف،
وأن عليهما أن يكونا أكثر إنسانية وعدلا مع فلذات أكبادهما، فلا يجعلا
الأولاد وسيلة للانتقام ولا يجعلا منهم سلاحا يوجهه ضد الطرف الآخر، فهذه
الحرب الجميع فيها خاسر، والخاسر الأكبر بكل أسف هم الأطفال.
القانون والتحايلوعن الرؤية القانونية يقول الأستاذ كمال الضمراني المحامي بالنقض، إن
مشاهدة الطفل حق شرعي وقانوني لكلا الطرفين، الأب أو الأم، ولا ينبغي لأحد
أن يتعسف بحرمان الطرف الآخر منه، مهما كانت الظروف والأسباب، إذ إن تنفيذ
حكم المشاهدة واجب لا ينبغي التحايل عليه لا سيما وأن عقوبة جنحة عدم
تسليم الطفل قد تصل إلى حد الحبس النافذ، حيث إن المادة (327 ) من قانون
العقوبات المصري على سبيل المثال، تنص على ما يلي : " كل من لا يسلم طفلا
موضوعا تحت رعايته إلى الأشخاص الذين لهم الحق في المطالبة به يعاقب بالحبس
من سنتين إلى خمس سنوات"، ويحدد الحكم أيضا مكان المشاهدة، وتتحدد مدة
المشاهدة (اللقاء بين الطفل واحد والديه ) وفقا للسلطة التقديرية للقاضي،
التي يراعي فيها عادة المسافة بين مسكن الحاضن والطرف الآخر، ومواسم
الدراسة، وغير ذلك .
وبين الضمراني أن نسبة قليلة من الأزواج الذين حصلوا على الطلاق يتفقون حول
هذا الأمر ولا يلجأون إلى القضاء، لكن الغالبية العظمى بكل أسف تستخدم
الأطفال كوسيلة انتقام، الأمر الذي جعل من قضايا الرؤية ومع تزايد عدد
حالات الطلاق في المجتمع، واحدة من أكثر – وربما كانت هي الأكثر على
الإطلاق – القضايا تداولا في المحاكم، لكن وبالرغم من حصول الطرف الذي ليس
له الحق في الحضانة على حكم مشاهدة الأطفال، إلا أن الواقع يشير إلى أن
العديد من الرجال والنساء - المكلفين بالحضانة - يخلقون أعذارا كثيرة تحول
دون تمكن الطفل من مشاهدة الأم أو الأب، كالسفر أو الحالة الصحية للحاضن
والمحضون، وربما وصل الأمر إلى اتهام الحاضن للطرف الآخر بالإساءة إلى
الطفل خلال فترة الرؤية وغير ذلك من أنواع التحايل، إمعانا في الحرب التي
يكون الطفل البريء ضحيتها الأولى.
وعن أحكام الحضانة والرؤية الشرعية وما يرتكبه الآباء والأمهات من جريمة
استخدام الأبناء كأوراق ضغط لكل منهما ضد الآخر، يقول الدكتور أحمد سعيد
عمران مدرس الدراسات الإسلامية بجامعة عين شمس، الحضانة في عرف الفقه
الإسلامي هي " القيام بحفظ الصغير أو الصغيرة أو المعتوه الذي لا يميز ولا
يستقل بأمره، وتعهده بما يصلحه، ووقايته مما يؤذيه ويضره وتربيته جسميا
ونفسيا وعقليا، كي يقوى على النهوض بتبعات الحياة والاضطلاع بمسئولياتها "،
وهي واجبة لأن التقصير فيها يعني هلاك الصغير، وقد اتفق الفقهاء على أنَّ
لغير الحاضِن حق الزيارة ورؤية الصغير.
وطبقا لهذا التعريف الفقهي المبسط فإن ما يحدث من بعض الحاضنين من استخدام
الأولاد الصغار كسلاح ضد الزوجات أو الأزواج السابقين، إنما هو تعريض
للأبناء للأخطار النفسية والعقلية، في حين أن من واجبات الحاضن تربية
الصغير نفسيا وعقليا وليس جسديا أو جسمانيا فقط، فحرمان أحد الطرفين –
الأب أو الأم - من رؤية الصغير، لا يشكل غبنا وظلما لأي منهما فقط بل
الأهم من ذلك أنه يشكل خطرا على الصغير، ما يعني أن الحاضن ودون أن يدري قد
استهان بالأمانة التي اؤتمن عليها ولم يحفظها على الوجه الأكمل.
ويضيف د. أحمد سعيد أن حرمان أحد الوالدين من رؤية صغيرة، يعد قطعا للرحم
التي أمر الله تعالى أن توصل، وحذر سبحانه من قطعها وتوعد من يقطعها، قال
تعالى في سورة محمد
فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارهم.
وفي الآية وعيد شديدٌ لقاطع الرَّحم : حيث قال المفسرون : وقوله:
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي هؤلاء الَّذين يفعلون هذا، يعني الَّذين يفسدون ويقطعون الأرْحام، الَّذين لعنهم الله، فأبعدهم من رحْمته،
فَأَصَمَّهُمْ أي فسلَبَهم فَهْم ما يسمعون بآذانِهم من مواعظ الله في تنزيله، "
وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ " أي وسلَبَهم عقولهم فلا يتبيَّنون حُجَج الله،
ولا يتذكَّرون ما يرَوْن من عبره وأدلَّته".
وقال عز من قائل في سورة الرعد
... وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ،
ولا شك أن من أكثر ما أمر الله بوصله هو الرحم، فمن قطعها من الآباء
والأمهات المنفصلين، فإن العقوبة واضحة في الآية لا تحتاج إلى بيان، ..
إنها اللعنة وسوء الدار والعياذ بالله .
وكما أكد القرآن الكريم على صلة الرحم، وتوعد قاطعيها باللعنة وسوء الدار
وغيرها من العقوبات، كذلك فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم في سنته
المطهرة، حيث قال في الحديث الشريف " خل
ق
الله الخَلْق فلمَّا فرغ منْه قامت الرَّحم فقال: مهْ؟ قالت: هذا مقام
العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضَين أن أصل مَن وصلك وأقطع من قطعك؟
قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك " وقال عليه الصلاة والسلام أيضا "
لا يدخل الجنَة قاطع رحم ".