.بين السحاب
سابح مع المهاجرين
لا بشر ولا زحام و لا من طريق زهقان
بعيد عن الأرض بس فى الشمس حنين
هو أنا طاير و لا ماشى؟! ده أنا فى الريح ساكن
يظهر كنت هنا من سنين
فوق تراب الأنين
بعيد عنهم..الناس التافهين
أنا بين السحاب
- قوم اصحى يا عم فى حد بيحلم بالحاجات ديه اليومين دول.(المنبه يتحدث)
- السرير: صباح الخير.
- الدولاب :هدومك جاهزة.
يقوم ( أنا ) من نومه بعد رد التحية إلى أصدقائه فى
الغرفة سواءً إلى (المنبه أو السرير أو الدولاب أو ..) فحياته مثلهم
والمرءُ على دين خليلِه.
هو ليس زاهدًا فى الحياة أو عابدًا لا يعرف إلا دعوة
السماء ولا أصابه الجنون الذى يجعل من قطعٍ صماءٍ مؤنسة و رفيقة له بل هو
الاحساس الداخلى الذى يوحى له بأن نفسه هى التى تعرف التميز و هى التى
تحتاج وهى فقط من تستحق الحياة لا وجود إلى الآخرين فهم كائنات ضعيفة لا
تستطيع ان تستوعب الأنا و لاتحتاج إلى المساعدة أو التقدير...لا أبالغ فى
وصف ذلك الأنا فكثيرًا ما تحكم المواقف.
أصواتٌ من هنا وهناك جرادٌ من البشر يتخلله العديد من
السيارات فهو يسير فى الحى الذى يسكن فيه من احياء القاهرة القديمة ذات
الطابع المعمارى المحلى تشعر أنه يسير فى مدخل قصرِه فهو لا يعبأ بهذا الكم
من البشر ناظرًا فقط إلى المبانى العالية فى المنطقة وذلك ليس تاملاً فيها
فهو يشاهدها كل يومٍ ولكنها تترجم له بصورٍ مختلفة شعور علو نفسه على تلك
الكائنات التى تسير بجانبه.
تخرج عينيُه عن علوها - أحيانا- لتبدأ نظراتها الخاطفة
لهذه الكائنات الضعيفة من وجهة نظرها لتكون بمثابة الحكم المباشر عليها
فإذا وجد سيدة عجوز تتخطى الأرض بخطواتٍ بطيئة عاجزةٍ فيقول:
- ديه مكانها التراب.
وعلى الجانب الآخر طفلٌ يجرى من الفرحة عبثًا.
- زاد عدد التافهين واحدًا.
يستمر هكذا يوميًا فى تقليل وجود من حوله-إن نظر اليهم-
سخرية وليس إنتقادًا...قد تكون الوجوه عابسة والأحوال قاتمة والظروف قاسية
ولكنه لم يفكر أن يكون مؤثرًا ايجابيًا عليهم على الرغم من قدر التأمل الذى
يتمتع به لكنه يوجه هذا التأمل إلى الأنا تكبرًا وعلوًا وليس اكتشافًا.
اختفت ضوضاء الحى وأصبح جراد البشر لا يمثله سوى عُبراء
سبيل وقتها قد حل الظلام تمامًا وبعُد (أنا) بما فيه الكفاية وأمسى لا يعرف
أين هو؟ فقد ظل يراوده حلم الصباح وهو بين السحاب حتى قذفت به قدماه إلى
هنا...هنا لا أثر إلى حياةٍ فقد سار قليلاً حتى وجد ممراتً ضيقة تستوى على
جانبيها كتل من الطوب ترتفع عن الأرض قليلا لا يُسمَع فيها سوى صوت نباح
الكلاب حتى تبين له المشهد.
- إنها القبور!
- ما الذى جاء بى إلى هنا؟!
فكر فى الرجوعِ وترك هذا الكان الموحش المرعب، لكنه تعب
جدًا من السير بلا هدف والتأمل المزيف و ظل يتخبط بين الممرات المظلمة فوجد
ظلالا لرجل أمام أحد المدافن كأنه تمثالا محنطا يظهر عليه الوجوم والحزن
....لم يرد ان يتحدثَ معه فهو فى غنى أن يخرجَ أحدًا من حزنه....حتى هوى
أمام القبر المجاور له فغرق فى غفوةٍ وكان ذلك قبل الفجر تنفس خلالها تراب
الأرض الذى طالما نسى أنه جاء منه.
- أنتَ....أنتَ....قوم!....قوم أصحى!
قام من غفوته على هذه الكلمات التى عبرت اليه مع اشعة شمس
الشروق...فنظر إلى الآعلى ليجد تمثال الليلة الماضية أمامه ووجه ممتلأ
بالرضا.
- أنت مين؟! (فى فزع)
- أنت اللى مين؟!
أنا لاقيتك نايم و لا كأنك نايم على سرير ملكى و أنت فى الحقيقة نايم على الأرض وسط التراب وفى مكان صعب النوم فيه. .
- آه فعلا...أنا كنت حاسس أنها أحلى نومة نمتها من زمن .
- هو القبر ده بينتمى ليك بصلة؟ و لاجى زيارة؟ بس أنا أول مرة أشوفك هنا!
- لأ.....آه كل القبور ديه تنتمى ليه ....ده مكان ولادتى الجديد!
أدركته هداية من الله فى أول مرة يشعر فيها بالتراب الذى
جئنا منه جميعًا....وعلى الرغم من أنه دار (القبر) دار نهاية الدنيا الا
أنها كانت دار بداية حياة بالنسبة له فقد تغير محل ميلاده من حى من احياء
القاهرة القديمة إلى محل الميلاد: القبر.
أن يعرفَ الأنسانُ مقدار نفسه والآخرين وتقوده هذه المعرفة إلى خالق (الأنا...هم) فهى بمثابة مولد جديد وحياة ثانية.