لا تسأليني لماذا أكتب كل ما أكتب بهذا
المقدار الكبير من الحزن ، واليأس ، والألم ، والموت ... فأنا فتى تعود
الحزن ، واعتاد اليأس ، وعاد الألم ، وعاده الموت ... فآمن بأن الفرح سحاب ،
والأمل سراب ، والحياة عذاب ...
والسحاب ـ كما تعلمين ـ يخدعنا كثيرا ، كثيرا ؛ لأنه لا يجود علينا بالأمطار دائما ، دائما ...
والسراب ـ كما تدركين ـ يسخر منا طويلا ، طويلا ؛ لأنه لا يجِدّ معنا وقت الجدّ أبدا ، أبدا ...
والعذاب ـ كما أعلم وأدرك ـ يسيطر علينا
عميقا ، عميقا . وهو الشيء الوحيد الذي يجود علينا كل الجود ، ويجد معنا
منتهى الجد ، بين حنايانا ، وفي جوانحنا ، وجوارحنا شديدا ، شديدا ...
لذا ، فلا تسأليني لماذا أكتب ما أكتب ،
من هذه الخواطر اليائسة ، وتلك الرسائل البائسة ، وكل هذه الكلمات ، وتلك
العبارات العابسة .. أرجوك لا تسأليني .
بل اقرئي ، وتمعني ، وتفحصي ، وتبيني ؛
لعلك تفهمين سر يأسي وأحزاني ، وتكتشفين لغز موتي وأشجاني ؛ فترفقين بي ،
وتصفحين عني ، وتعذرينني ؛ فأنا أولا فتى فاشل ، وثانيا فاشل ، وثالث فاشل ،
ودائما فاشل ...
أولا : فاشل في الاستقلال الذاتي ،
والاستقرار الشخصي ؛ لأني ما زلت طفلا كبيرا ـ على رغم أني أحلق ذقني
الخشنة مرتين في الأسبوع ـ تحتضنه عائلة ضعيفة ، بذراعين أصابهما الكلل
والوهن من طول الاحتضان ، ويرعاه والدان واهنان مهانان ، بكل ما أوتيا من
قوة ضعيفة ، وهمة خائرة ، بدافع الرعاية الأبوية ، ويضيق به إخوة أشقاء
أشقياء ( والمعنى يسير في اتجاهين مفترقين ) ، عند الأكل والشرب ، وفي
اليقظة والنوم ، و.. و... من شدة الضيق والمضايقة ...
ثانيا : فاشل في العلم الذي اكتسبته منذ
سنين ، وفي العمل الذي سأكتسب منه منذ شهور ؛ لأني ما زلت ، في نظر المجتمع
، جاهلا على رغم الدبلوم والشهادة ، وعاطلا ، في نظر الأصدقاء والأعداء ،
على رغم اللف والدوران . لم ينفعني علمي أو حتى أدبي ، في أن أكتب طلبا فذا
، يحظى بالرضا والقبول لدى المؤسسات العمومية ، أو الشركات الخصوصية ،
ويجلب لي السعد والسعادة . أو في أن أجتاز مباراة فريدة ، تكلل بالتوفيق
والنجاح عند المراكز ، أو الجماعات ، أو الهيئات ، وتحمل إلي المنى والهناء
. أو في أن أخوض اختبارا متميزا ، يعود علي بالالتحاق والولوج في وظيفة
حكومية ، أو خدمة رسمية ، ويزرع في النشوة والفرح ...
ثالثا : فاشل في الحب مهما كان ، وفي
الأسرة كيفما كانت ؛ لأني ما زلت أعزب ، منعزلا عنك ، وعن غيرك ، لا أستطيع
أن آخذ يديك بين يدي بثقة ، وأحوط خصرك بجرأة ، وأطوق جيدك بشجاعة ، وأقول
لك ، ولكل العالم ، وبكل لغات العالم : أحبك والله العالم ، وأرغب أن
نتزوج بسرعة ، ونحيا في ثبات ونبات ، ونخلف صبيانا وبنات ...
ودائما : فاشل في هذه الحياة المرة ،
المريرة ، والعسيرة ؛ وما الحياة سوى هذه التطلعات ، وإلا تلك الطموحات ؛
لأني سأظل هكذا ميتا ـ باطنا ـ إلى أن أصير ميتا ـ ظاهرا ـ فلا يبقى مني
باطن وظاهر ...
أرجوك ، لا تحدقي في بهذه العيون المتوسلة ، والمتسائلة ، فأجمل ما في كلمات هذه عيونك تلك ، يا عيوني !!
ولا تثوري ، ولا تنفعلي ، ولا تقولي إني خدعتك أمس ، واليوم أهرب منك ...
ولا تسيئي بي الظنون ، فما أقسى ظنونك !!
ولا تظلميني ، ولا تدّعي أني افتريت عليك في الماضي ، والآن أصدمك بالحقيقة !!
لا .. لا يا حرقة قلبي ، ويا شعلة فكري ،
ويا نور أحلامي ... لا تقولي إني كذاب ، وغشاش ، ومنافق ، وجبان ... فأنا
لا أخونك ، ولا ، ولن أحب سواك !!
كما لا تغتري ، ولا تنخدعي ، ولا تخدعي
نفسك ، وتخدعيني ، وتقولين إني متشائم ، ومتخاذل ؛ فما عاد بيني وبين
التشاؤم حاجز قوي ، ومانع متين ، وما أرى بيني وبين التفاؤل جسرا منيعا ،
وممرا سريعا ...
وإلا فما معنى أن تسير بي الأيام ،
والشهور ، والسنون ، كل هذا الوقت والزمن ، و« أنـا » ما زلت « هـو » ، في
حكم الغائب ، وحكمة العدم ، ولم أصر بعد ذا هوية وماهية ، ولا أجرؤ أن أقول
ها « أنـا » لأي كان : « هـو » أو « هـي » أو حتى « أنت » ؟!
وما معنى أن تجري بي الأماني ، والآمال ،
والأحلام ، بكل هذه الكمية ، وهذه الكيفية ، دون أن أحقق ولو قدرا قليلا من
تلك الكمية ، ولو بكيفية بسيطة ؟!
وما معنى أن أجد نفسي محتاجا ، تواقا ،
مشتاقا ، إلى حاجيات الحياة ، وضروريات العيش ، ومحاسن الوجود ، فألقاني
عاجزا عن توفير الحاجيات منتهى العجز ، وقاصرا عن تحقيق الضروريات كل
التقصير ، وبعيدا عن نيل المحاسن أقصى البعد ؟!
فهل فهمت الآن ؟
أرجوك ـ أخيرا ـ لا تطرقي برأسك نحو الأرض
، ولا تقطري دمعك على الخدود ، ولا تأسي من أجل فتى يقر لك بعجزه ، وحزنه ،
ويكشف لك عن يأسه وموته ، ويعلن لك حرقته وفراقه ، ويقول لك :
آسف .. لا يوجد حـل آخـر