لم يكن أمل دنقل، ذلك القادم من الصعيد الأعلى بمصر، وما يحمله ذلك الصعيد من أثقال عنف وثأر، وبدايات تقدم ملتبسة، وما يحمله من هوام ونأي، يشبه بلدانا عربية قصية، في تركيبته على أكثر من وجه، كما يرتسم في مخيلتي.
لم يكن بداية إلا صدى ذلك الصعيد ورجْعه وحنينه وصدقه حدّ عري النصل ومضائه. والذي سيكون رافداً من روافد الشعر المصري والعربي، تأسيساً على تلك الخصائص والمناحي ذات النزوع الحرّ، الكاشف والحاد; رغم تمركزه في جملة وإيقاع تفعيلييّن، ذلك الإيقاع المتاخم لأفق النثر والمخترق لرحاب حريته المتعدّدة المشارب والمصبات. فليس ثمة وقار الوزن ونصاب نظامه المسبق المتداول; هناك لعب من نوع آخر، مفتوح على الحياة بأشلائها وحطامها اليومي والرمزي في هذا الشعر.
لم يكن أمل دنقل بعدّته تلك، وهواجسه وانفلاته أمام إيقاع المدينة القاهري المتراكم والمقولب في نواح شتى، منذ أزمنة بعيدة في الكتابة والذاكرة، لم يكن، في ظل المناخ الثقافي والشعري المهيمن، لينصاع، ويتبنى عناصر ذلك المناخ وأجوائه ومعطياته، كان عليه بالضرورة العضوية وبطبيعة تكوينه وأصالته* الابداعية والفطريّة، أن ينشقّ ويمرق عن مركب الثقافة الرسمية وغير الرسمية، ويكون ذلك الصعلوك النموذجي الصاخب حتى في صمته، وهو يجول في ليل هذه المدينة المتموج بالجمال والأصدقاء والتناقضات والأحلام المجهضة، التي بدأت تأخذ شكلاً آخر في مخيلته ووجدانه. وهو إذ يذرع ليل القاهرة مع يحيى الطاهر عبد الله ونجيب سرور وغيرهما من ذلك الجيل المنكوب بالألم الاجتماعي والوجودي.. أستطيع الآن، أن أتبينهم في الضوء الخافت للغياب،مع رفاق لهم يحتلون أرصفة العالم في آصرة روحية، أن أتبين أحذيتهم وهي تفركش ليل المدن بالرفض والسخرية والتدمير; متأملين الجمال ونقيضه والقيم التي بدأت تعممها عهود الانحطاط العربي. وذلك الصدق الخبيء المتواري خلف حجاب الألم والمعاناة اليومية للبسطاء والهامشيّين.
كان أمل دنقل يحاول الغَرْف من طين المدينة ودخانها ومخلوقاتها، ومن ذاكرته الصعيدّية الشرسة ومن التاريخ، طبيعة "مشروعه" الشعري الذي سيكونه لاحقاً. لم يكن دنقل في رحلته من الصعيد الأعلى إلى القاهرة على قلة أدواته الثقافية والمعرفية، في ذلك العمر المبكر والذي سيقصفه الموتُ على نحو مبكّر أيضاً، مصدوماً بهذه المدينة المدهشة كما جرت العادة عند كثيرين، ارتدوا إلى ما يشبه الحنين الريفي المبّسط، وإنما اتخذ منذ البداية موقفاً صِدامياً يصل حد العدوانيّة، رابطاَ قيم المدينة وعناصرها المتغيرة بأبعادها المصريّة والعربيّة، رائياً عبر أقنعته وأساطيره ما سيؤول إليه الوضع العربي، من رعب وانحدار تتواضع أمامه أعتى المآسي في التاريخ وأكثرها هولاً; والتي لم تكن فترة (أمل) إلا النّذر الأولى إن لم نذهب بعيداً في التاريخ، لهذا الدَّرْك الذي وصلت إلى قعره هذه الأوضاع بتشعباتها وأماكنها المختلفة. كان الواقع واستشراف القادم، يضغطان على أعصابه وخياله، أكثر من أي شيء آخر; فكان ديوانه الأول عبر قصيدته الشهيرة (زرقاء اليمامة) بما يشبه الصرخة الشعريّة الأولى:
"أيتها العراّفة المقدّسة
جئت إليك مثخناً بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى
وفوق الجثث المكدّسة
مكسر السيف مغبّر الجبين والأعضاء"
لم يكن (أمل دنقل) شاعراً سياسياً وفق الوعي السائد لهذا المصطلح ومن على شاكلته. ليس لأنه قال شعراً في الحب والموت والطفولة، فمثل هذا الرسم والتصنيف لا يليق بإنجازه الإبداعي. ولا بإنجاز أي شاعر حقيقي. كان شاعر أبعاد وفضاءات. كان التاريخ بالمعنى العميق، هاجساً أساسياً في مساره، تاريخ الفرد المندغم بتاريخ الجماعة اندغام الخاص بالعام، من غير تنظيرات أو فواصل مصطنعة. كان معفّراً بتراب الأرض ووحل التاريخ. أليس الشعر هو التاريخ نفسه بأدوات الخيال والوجدان، أليس الشعر هو تلك السيرة الخاصة للذات وتمزقاتها في مرآة حركة الزمن والتاريخ، كل حسب رؤيته وأسلوبه؟ كان الشعر لدى (أمل) قراءة للمعيش ونبوءة بالقادم، لكنه من فرط توحّده بنبض المكان والبشر والأشياء، ليست نبوءة المتعالي أو المتعالم، ليس قديساً أعلى مرتبة من سائر الناس. كان أكثر بساطة وصدقاً، ذلك الصدق الذي وحدّ الكتابة والسلوك، حتى الوصول إلى مشارف الانتحار وبهجة الضفاف الأخرى، كأنما هذا الجنوبي، كائن السلالات الناريّة لا يستقر إلا على القلق والرفض.
"لا تدخلوا معمدانيّة الماء
بل معمدانيّة النار
كونوا لها الحطب المشتهى والقلوب"
***
تشرد الشاعر الجنوبي في واقع الحياة اليوميّة بتفاصيلها، كما تشرد في الكتابة وسط زوابع رموزه وأساطيره وأقنعته. من العصر الفرعوني حتى العهود العربيّة اللاحقة، إلى الراهن والطفولة الجنوبيّة التي تهيمن على الشاعر أكثر وهو على عتبات النهاية في (الغرفة رقم
. عبر هذا الترحّل في المكان والزمان الشعريّين، أخضع أمل دنقل تلك الأزمنة بشخوصها وشعائرها لما يرتئيه من معضلات واقعه وزمنه. فكان الواقع العربي معروضاً في الضوء الباهر للتاريخ; فيما يشبه الدراما المسرحيّة حيث الماضي والحاضر يتبادلان الأدوار والمواقع، في لعبة أقنعة محبوكة لصنيع الفنّان وقدرته على إدارة المصائر والانقلابات في الذات والتاريخ. لعبة تنزف مفارقة وألماً، وتفيض حناناً، وهو ما يكشف عنه الشاعر حتى في هيجان الغضب والإحباط.
"لو كنت ريحاً لاختنقتم حين لا تهب
لو كنت نوحاً فوق لجة الطوفان
طردتكم من السفينة
لو كنت نيرون لطهرت قلوبكم على ألسنة اللهب
لكنني أحبكم.."
تذكرنا هذه العبارة، بعبارة (آخاب) بطل رواية (موبي ديك) "لو كنت ريحاً لن أهبّ على هذا العالم" مثل هذه المقاطع والقصائد العنيفة يمتلئ بها المتن الشعري، إن لم تكن لُحمته وسُداه. فهناك المدن التي يتقاذفها القراصنة المخمورون كما يتقاذفون زجاجة الخمر بين أقدامهم. حتى في مواقف الحب، هناك نوع من عنف خبيء ورغبة تدمير.
إنه الارتطام بالعالم وقيمه وأنماطه.
من جغرافية الآلهة الفرعونية ورموزها المتصادمة في السمو ونقيضه، في حلم العدالة والظلم الساحق والعبوديّة، تمضي رحلة النص الباحث عن ذاته وهويته بتجلياتهما المختلفة; حتى زرقاء اليمامة وحرب البسوس.. الخ.
تتبدل الأقنعة والعصور، لكنّ روح النص وهواجسه وأحلامه وانكساراته، تبقى واحدة، في منعرجات هذه الرحلة المرهقة. البحث عن المعنى في ظلمات العدَم الماثل دائماً. وفي محطات هذا الترحال، تستوي لغة التعبير الشعري وتنضج من محطة إلى أخرى، ليس بالضرورة في خط تصاعدي، لكن (زرقاء اليمامة) حيث الشاعر ما زال يختبر أدواته وموهبته الأكيدة، ليست هي (حرب البسوس) ذات البناء الأكثر تركيباً وتعقيداً بالمعنى الفني، مشدودة إلى عصب الفن الكبير:
"هل تترّّنم قيثارة الصمت
إلا إذا عادت القوس تذرع أوتارها العصبية
والصدر حتى متى يتحمّل أن يحبس القلب.
قلبي الذي يشبه الطائر الدموي الشريد"
وصولاً إلى المحطة الأخيرة الأكثر خطورة حياة وشعراً، في (الغرفة رقم
وهنا تبدو مفارقة أخرى في رحلة المفارقات الشعريّة عند دنقل، مفارقة تبدو قليلة في تاريخ الإبداع والمبدعين; وهي الكتابة على عتبة الموت الفيزيقيّ القادم حتماً، حيث الشخص الموشك على الانطفاء النهائي، ينهي مسار تحديّاته للحياة والزمن ويستكين إلى قَدره; وإذا ثمة كتابة فليست أكثر من شكوى قدريّة وبوح واسترحام بالمعنى البائس الذي يرتد إليه الكائن في لحظة الانكسار النهائي. في (الغرفة رقم
نقرأ كتابة مختلفة، استمراراً للرحلة الإبداعية برهافة وإشراق أكبر. خفّت تلك الجَلَبة في النص، وتعمق مكانها تأمل وجودي أكثر حضوراً عن ذي قبل في الحياة والموت والطبيعة. ثمة تقطير اللغة وكثافتها.
يبدو أن شبح الموت المحدِق، لم يزده إلا توقداً وإبداعاً، وفي السياق نفسه يتم استدعاء طفولة ووجوهٍ، أضحت بعيدة ومكتنفة بالغموض.
وأصدقاء وأماكن ومقاهٍ كانت مراتع الشاعر، يتم استحضارها، عبر حركاتها وتلويحاتها الطيفيّة الآخذة في النأي والاختفاء.
"هل أنا كنت طفلاً
أم أن الذي كان طفلاً سواي؟
هذه الصورة العائليّة
كان أبي جالساً وأنا واقف تتدلى يداي
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجاً وعلمت القلب أن يحترس"
وإلى ذلك الاستحضار للمكان القصيّ ومن ظلال الأعماق، سيكون المشهد الحسيّ الماثل بتفاصيله وشخوصه وألوانه، هو الآخر وقود الشعر في هذه التجربة الأخيرة، من غرفة العمليّات ونقاب الأطباء، ولون السرير الذي أضحى قبراً، المشهد الذي يكتسحه البياض، عدا المعزّين بالسواد كالعادة. وهو ما يأخذ بحِيرة الشاعر،
إذ يتساءل، هل السواد
"هو لون النجاة من الموت
لون التميمة ضد الزمن؟!"
يمضي الشاعر في تأمل الموت من خلال المشهد المحيط، على أكثر من وجه والتقاطة بالغة الذكاء. وكأن الميّت ليس هو، كأنه شخص آخر يتأمل في مرآة غيابه الوشيك ذاته والزمن والزهور، الطيور والخيول التي أصبحت للترفيه السياحي، في الظلال الباردة للمتاحف وفوق حلبات سباق المترفين، بعد أن كانت بريّة، كالناس، وكانت تبني الممالك والسموّ النبيل. صارت مدجّنة ذليلة مثل بشر هذا الزمان.
مشاهد ومقاطع أنى للذاكرة أن تغادر أو تنسى ذلك التأثير السحري الآسر:
"تتحدث لي الزهرات الجميلة
أن أعينها اتسعت ــ دهشة ــ
لحظة القطف
لحظة القصف
لحظة إعدامها في الخميلة"
في حواره مع باقة الزهور التي جاءته كهدية أمنية بالشفاء الذي أصبح مستحيلاً، كيف قطعت تلك الزهور، مشوار موتها المرعب، كيف تجود له بحنانها "بأنفاسها الأخيرة". نوع من أنسنة الطبيعة. فحين يبدأ البشر في التلاشي والاضمحلال والإبادات الروحيّة والأخلاقية، تحل الطبيعة ــ أمُّنا الحنون ــ بحيواتها وجمالها الصامت، بفراغها الأكثر اكتنازاً بالأسرار.
"رفرف
فليس أمامك ــ
والبشر المستبيحون والمستباحون صاحون ــ
ليس أمامك إلا الفرار
الفرار الذي يتجدّد كل صباح"
هذه الأنسنة للطبيعة وتوجيه الخطاب الشعري نحوها، في حوار مرير، يرى الشاعر في مرآته، صور الموت القادم، وصور العدوان البشري. كل شيء آيل للزوال والانتهاء، وهذا أكثر نبلاً، وفق رؤية الشاعر، قبل أن يستباح مثلما استبيح الصقر، صقر قريش.
دائماً هناك ذلك التوحّد، بين الموت الفردي والموت الجماعي; بين الراهن والتاريخ، وحدة مصير لا تنفصم عُراها بين أعضاء هذا الجسد المثخن بالجراح، حتى في اللحظة الشخصية الحرجة. رغم أن دنقل في ديوانه الأخير، يقف مع الموت في مواجهة حاسمة ونهائية، مما يدفعه الى استبطان الذات والوجود إلى الانغمار في الأعماق الجوانيّة لمسيرة الكائن على هذه الأرض. هنا يحتل الداخل مساحة أكبر من الخارج، إذا صحت هذه الثنائيّة، وهي ربما صحيحة في تناول نتاجات شعريّة وإبداعيّة بعينها وليست بإطلاق.
في سياق أنسنة الطبيعة، يتأنسن الموت ويفقد خشيته ورعبه الميتافيزقيين، ويضحي كائناً أليفاً طبيعيّاً، وكأنما الإرث الفرعوني الموغل في ازدراء الحياة العابرة، يمارس سطوته بشكل لا واع ، على الشاعر، لكن من غير ذلك البعد الإيماني البديل، الذي يجعله مشدوداً إلى "بين الحق والخلود والأبديّة".
***
أمل دنقل الذي دفع بالعبارة الشعريّة العربيّة ذات الهاجس التاريخي والميثولوجي، إلى مشارف جديدة، ولم تغره تلك التهويمات اللفظيّة التي أخذت في الانتشار، والتي تتوسل الإدهاش البراني وما يحتويه من فقرٍ روحي ودلالي.
أمل دنقل بمنحى ما تقدم، وغيره بالطبع، شاعر بالغ الثراء والموهبة، رغم اختلاف الرؤى والخيارات، لكنه "ليس العبقريّة التي نحتاج إلى ألف عام من الآن، إلى مسافة تماماً كالتي كانت بين المتنبي ودنقل، سنظل ننتظرها"، كما عبر كاتب كبير، إلا إذا اعتبرنا ذلك نوعاً من المبالغات التي تنتشر هذه الأيام بصورة أكبر ولا نستطيع التفريق بين هَزَلها وجدّها.
أمل دنقل ليس ضمن هذا التقييم الطريف، وليس هو "الذي فقد الشعر المصري بغيابه ــ أمله في تطور الخطوة التالية لصلاح عبد الصبور تطوراً حاسماً" كما عبر شاعر كبير أيضاً. الشعريّة المصريّة ما تفتأ تتناسل أجيالاً وأساليب وطرائق تعبير.
***
أخيراً ونحن نحتفي بالذكرى (الخامسة والعشرين) لرحيل أمل دنقل، في هذه اللحظة المفصليّة، التي توغل فيها الحضارة في مهاوٍ بربريّة تكنولوجيّة حديثة، يحسن أن نذكّر بمقولة الفرنسي ذي الأصل الروماني (سيوران) بأن (هتلر) و(ستالين) ــ مع الاحتفاظ بالفروق ــ ليسا إلا طفلين في جوقة موسيقيّة، بالنسبة للقرن الذي نعيش بداياته البشعة، وقد أطبق طغاته وجهلته على رقَبَة العالم والكون.
أما عربيّاً، فقد وصل الوضع إلى ما هو عليه، إلى آخر الشوط، في تغذية جلاديه وقَتلته، بالمال والدم واللحم الحي، كي يكون لقمة سائغة، من غير أبسط غصة في فم القاتل والجلاّد. ابتلاع الفريسة بسلاسة بالغة، وهو ما لم يعرف له التاريخ مثيلاً حتى في أقصى العهود عبوديّة وانحطاطاً.
هل نردد ما كتبه (دانتي) على باب جحيمه "اخلعوا كل رجاء فأنتم على أبواب الجحيم؟" لكننا في قلب الجحيم حقاً، في قلب الربع الخالي، حيث يضيع الدليل، ولا يتبقى من القافلة إلا كلبها الجريح، ينبح في عَتْم الأبديّة.
ربما من هناك يبزغ معنى مختلف للوجود.
***
قاهرة علي قنديل ..
علي قنديل، الشاعر المصري، الذي غادر عالمنا، عالم الاحياء، وفق التعريف البيولوجي للموت، في 5/4/1975م.. إثر إصابته في سيارة النقل العامة، التي دهستها شاحنة في ليل طرقات الصعيد (ربما)، الذي يختلط في جنباته عواء الذئاب مع صرخات الانتقام الثأرية بين قبائل البدو المتناحرة في تلك البقاع.
مات علي قنديل قبل أن يكمل الحلقة الأخيرة وفق "ريلكه" وما قبل الأخيرة. كان باكراً على ذئب الصدفة هذا أن يفترس جسد الشاعر، الذي كان يؤشر بقصائده للغة شعرية مختلفة عما ساد أجواء الشعر المصري الذي يتناوب بوابته شعراء فرضوا أنفسهم بقوة الأيديولوجيا والإعلام.
كان علي قنديل مع مجموعة أصدقاء مشكلين هذا الهاجس الجديد. وكان من أكثرهم شاعرية وتدميراً لأصول الشعر المستقرة. بجانب حلمي سالم وعبدالمنعم رمضان وحسن طلب والقائمة تطول. برزت موهبته مبكرة، كالموت الذي خطفه وهو يتنزه في حدائق أحلامه الموحشة، بين زيارة أهله الفقراء وكتابة قصيدة جديدة تخترق حجب السطح الزائف. القصيدة، قصيدته تختلط فيها دماء اليومي القاسي ونزوع غامض في التقاط كينونة لا متناهية. .
كان علي قنديل يفتت عناصر الوجود ليجمعها في مناخ شعري يمتلك خصوصيته إلى حد بعيد. نص يضج بالأشياء الملموسة والمبعثرة هنا وهناك، والتي ترتفع بفعل المخيلة إلى أفق الشعر:
"ونمشي فوق تراب النيزك نخفي وجهينا في صدر العائلة
العائلة الدافئة من اللبلاب أو النسرين
أو نتواصل عبر لقاح البازلاء"
ليس ثمة ما يدخل من هذا الشعر في مجانية القول أو التراكيب الفارغة التي يختفي وراءها الكثيرون من دعاة الحداثة، بل وعبر مجموعته الشعرية الوحيدة "كائنات علي قنديل الطالعة". . كل صورة، كل جملة شعرية تفيض بدلالات مناخ المعاناة المخصّبة بذلك الحلم، الذي يتجول وحيداً فوق تراب النيزك ويتحد أخيراً بالنهاية المؤلمة.
علي قنديل حين كان يكتب هذا الشعر. كانت ذاكرة الشعر الخمسيني هي المهيمنة بإطلاق، والمناخ الشعري الجديد ليس بهذا البروز المختلف مع تلك الذاكرة وهذا برهان آخر على تميزه وشاعريته.
حين يتكلم علي قنديل بلغة الشعر عن القاهرة، التي أتى إليها غريباً من قريته للدراسة، نلاحظ أن هناك موروثاً شعرياً ونثرياً واسعاً حول القاهرة، نجده مفارقاً للجميع من الشعراء، الذين سحقت هذه المدينة أحلامهم الريفية وفق رؤية مثنوية تقترب أحياناً من السذاجة، ريف ــ مدينة، وكانت لغة هذا الشعر وأدواته أقرب إلى رومانسية مضى عهدها. وهو بهذا يقترب من أمل دنقل والشعريّة المصرية الجديدة التي تجسّدت جوانب أساسيّة منها في مجلتيْ (إضاءة) و(الكتابة السوداء) في تلك المرحلة.
يقول علي قنديل:
"القاهرة : دخان يقترب :سماء
مدرجة في قائمة الأعمال. وفيما، بين
الحلم وفائدة الافكار وتوابيت
تتناسل، فطر يتكاثر والساعة
في عكس إيقاعات القلب.
أفتح نافذة، يتهدج موج يصل الشرق
بأعصاب الغبطة، أفتح عمقاً، تنشطر
اليقظة في ألق الشيخوخة فأعدل
هندام أمي، أفتح، أفتح تجرية"
هذه هي قاهرة علي قنديل. يمشي فيها مشية المتسكع بين صخور أحلامه وكوابيسه، متعثراً "بأحجار الشيخوخة وموائد الكلام" كي يفتح فضاء جرح جديد في لغة: اللغة – الحياة، تلك التي لاكها الخطباء ومتشعرنو الفصاحة والحداثات المفتعلة.
يمكن القول إن مثل هذا الشعر، كان يؤشر لأفق جديد في الشعر المصري. وفي مقام هذا الحديث العابر عن قنديل، هل من المجدي في شيء أن نتذكر عام 1974، على ما أظن، فالجو مليء بضباب الزمن المتعجّل والشتات، حيث جمعتني كمستمع، ندوة أدبية في القاهرة بعلي قنديل وحلمي سالم. ربما كانت آخر مرة بالنسبة لعلي. في تلك الفترة كنا نتهجى أبجديات ثقافة محتملة، وربما كان علي يتهجّى أبجدية موت غامض.
***
غالب هلسا والقاهرة
في هذه اللحظة من نهار رمضاني يوشك على نهايته .
أكتوبر والطقس ما زال لم يجنح إلى البرودة بعد .
خريف غامض ، أوراق شجرهِ الأصفر يتساقط في الروح والمخّيلة ..
في هذه اللحظة تنزل عليّ ذكرى الراحل الكبير غالب هلسا.. هكذا وأنا أجلس على منضدة القراءة والكتابة مثل معظم الصباحات ، يحط عليّ اسمه الذي يستدعي على الفور ملامح شكله ومنجزه الإبداعي بدوائر متاهاته وشخوصه ، بالرغبات والأحلام المداسة بغلظة قل مثيلها ، تحت عجلات القمع والاستبداد لبرهة التاريخ العربي المعاصر .
هكذا ... بفجاءة لا ينقصها الرهافة والقسوة ، يحط اسم الراحل على شجر خريف غامض تسرح أشباحه على منضدة كتابة مقفرة كصحراء يحاصرها الغزاة والجفاف ..
بملامحه الطرية اللامعة التي لا يكاد ينعكس على صفحتها كل ذلك الشقاء والمعاناة الحياتية والإبداعية التي وسَمَت حياة الراحل وطبعت كينونته بالكامل منذ سنيِّ حياته الأولى ، منفصلاً عن مرابع الولادة والعائلة . متبنياً أصعب الخيارات الفكرية في التصدي للظلم والتخلف بكافة أشكاله وبنياته ، ماضياً في دروب الإبداع الموحشة ، لكن المضاءة بنير الفكر والممارسة ، بالأمل الذي كان موجوداً، حتى لحظته الأخيرة التي قذفتها المشيئة هذه المرة إلى دمشق..
منذ انفصاله المبكر عن بيئته الولادية في الاردن صارت القاهرة مسرح حياته وحريته الإبداعية وسجنه . صار جزءاً من نسيج هذه المدينة الشاسعة المتشظية ، من أحلام نَخبها وطليعتها في السراء والضراء ، في خوض غمار التجربة والإبداع..
توحدت تجربة غالب هلسا مع قناعاته ودفع أثماناً باهظة من غير تسوية مخلّة أو محاباة مهما كان بريق مصدرها المادي والمعنوي ، اليميني واليساري ، كالنظام الناصري وغيره من التنظيمات الطامحة إلى سدة الحكم والسلطة ..
منذ هجرته المبكرة الأولى صار الراحل الكبير لا تحده حدود الجغرافيا والأقاليم العربية والبشرية المصطنعة .
صارت جغرافيا الخيال والأحلام واللغات سكناه الأساس ، مضارب عشيرته المبعثرة في أصقاع الأرض والتاريخ..
في أعمالة الروائية خاصة ، ومنذ (الخماسين) و(الضحك) حتى (الروائيون) روايته الأخيرة يبني غالب هلسا ويتابع مسيرة روائيه غابية (من الغابة) شديدة الغنى والأصالة بالمعنى المفارق . تشكل ملحمة الزمن العربي الراهن بتخلفه وحداثته المكسورة بأفراده وجماعاته ، بمدنه وصحرائه الموصدة الأبواب .
يلتحم الشخصي الحلمي ، الهلوسي ، بالتاريخ والواقع الموضوعي على نحو معماري بلحمته المُحكمة، بخبرة جمالية وحياتية ومعرفية لروائي كبير لم ينل بعض ما يستحقه . وهو أمر ليس مستغرباً في دنيا العرب المبنية أركانها على النفاق والشللية وسحق الاختلاف .
في هذا الصباح الاعتيادي ، في المدينة التي أحبها غالب هلسا وكانت مسرح عواطفه الواقعية والرمزية.. (أتذكر الآن لحظة ترحيله القسري إثر ترؤسه مؤتمراً، في عهد الرئيس السادات، من مؤتمرات تلك المرحلة)
في القاهرة ،هذه المدينة التي أحببناها حتى الوله والتكرار يحضرني غالب هلسا ، يحط طائر روحه على شجر الخريف الزاحف.
سيف الرحبي