...يسير الاجرام السماويه فى غروب الشمس و انسدال العتمة في حنان و النظام المحكم الذي يمسك بالنجوم في افلاكها و إطلالة القمر من خلف السحاب و انسياب الشراع على النهر و صوت السواقي على البعد و حداء فلاح لبقراته و نسمات الحديقة تلف الشجرات التي تبدو فى ظل القمر فضضها القمر كوشاح من حرير .. إذا اقترنت هذه الصورة الجميلة من النظام و التناسق بنفس تعزف داخلها السكينة و المحبة و النية الخيرة.. فهي السعادة بعينها
أما إذا اقترنت هذه الصورة من الجمال الخارجي بنفس يعتصرها الغل و التوتر و تعشش فيها الكراهية و تنفجر داخلها قنابل الثأر و الحسد و الحقد و نوايا الانتقام.. فنحن أمام خصومة و تمزق و انفصام. نحن أمام هتلر لا حل له إلا أن يخلق حربا خارجية تناسب الحرب الداخلية التي يعيش فيها.. نحن أمام شقاء لن يهدأ إلا بأن يخلق شقاء حوله
إن السعادة في معناها الوحيد الممكن هي حالة الصلح بين الظاهر و الباطن بين الإنسان و نفسه و الآخرين و بين الإنسان و بين الله. فينسكب كل من ظاهره و باطنه في الآخر كأنهما وحدة، و يصبح الفرد منا و كأنه الكل.. و كأنما كل الطيور تغني له و تتكلم لغته
أما الصورة الدارجة للسعادة التي تتداولها الألسن عن شلة الأنس التي تكرع الخمر في عوامة و حولها باقة من النساء الباهرات العاريات و أجساد تتخاصر و شفاه تتلاثم في شهوة مشتعلة و أفواه تتنفس الحشيش في خدر و تلذذ
هذه الصورة هي حالة شقاء و ليست حالة سعادة فنحن مع نفوس تركت قيادها للحيوان الذي يسكنها و كرست حياتها لإرضاء خنزير كل همه أن يأكل و يضاجع
هي حالة عبودية.. حالة غرق للإنسانية في مخاط الحيوانية اللزج
و مثلها حالة السعداء الآخرين الذين يتسلقون على بعضهم بعضا جريا وراء المناصب و الآخرين الذين يكدسون المال و الطين و العقار و يلتمسون السلطة و القوة بكل السبل
فالسعادة لا يمكن أن تكون في المال أو القوة أو السلطة بل هي في ماذا نفعل بالمال و القوة و السلطة
في النفس التي تستخدم المال و القوة و السلطة
السعادة ليست في البيت المفروش بالسجاجيد العجمي و الشينوا و الكريستال و لكن في النفس التي تسكنه
و (( الخارج)) لا يستطيع أن يقدم لنا شيئا إذا كنا نحن من (( الداخل)).. من نفوسنا.. غير معدين للانتفاع بهذه المنحة الخارجية السخية.. و إذا لم نكن في صلح مع هذا الخارج و في تكييف معه
و في قصة لتولستوي يقول الإقطاعي للفلاح الطامع في أرضه سوف أعطيك ما تشاء من أرضي. تريد عشرة فدادين.. مائة فدان.. ألفا.. لك أن تنطلق من الآن جريا في دائرة تعود بعدها إلى مكانك قبل أن تغرب الشمس فتكون لك الدائرة التي رسمتها بكل ما اشتملت عليه من أرض.. شريطة أن تعود إلى نقطة البدء قبل غروب الشمس، أما إذا غربت الشمس و لم تعد فقد ضاعت عليك الصفقة.. و يفكر الفلاح الطماع في دائرة كبيرة تشمل كل أرض الإقطاعي.. و هو مطمع يحتاج منه إلى همة و سرعة قصوى في الجري حتى يحيط بها كلها في الساعات القليلة الباقية على الغروب
و يبدأ في الجري و كلما تقدم الوقت كلما وسع من دائرته اغترارا بقوته و طمعا في المزيد و تكون النتيجة أن تتقطع أنفاسه و يسقط ميتا قبل ثوان من بلوغ هدفه.. ثم لا يحصل من الأرض إلا على متر في متر يدفن فيه.. و هذه هي حاجة الإنسان الحقيقية من الأرض بضعة أشبار يرقد فيها.. و هو ينسى هذه الحقيقة فيعيش عبدا لأهواء و أطماع و أوهام تضيع عليه حياته
و قد فطن تولستوي إلى هذه الحقيقة فوزع أرضه على الفلاحين و هرب من بيته الأنيق الدافئ و سكن في كوخ حقير مع الفقراء المعدمين
و كذلك فعل غاندي الذي عاش على عنزة يحلب لبنها و يغزل صوفها
و كذلك فعل المسيح الذي عاش بلا بيت و بلا زوجة و بلا ولد.. لا يملك إلا ثوبه
و هؤلاء هم السعداء العظام الذين جاءوا ليعلموا الناس كيف تكون السعادة
قال لنا بوذا إن السعادة في قمع الرغبة و ردع النفس و كبح الشهوة بذلك وحده يكون العتق الحقيقي للروح و تحررها من سجن الجسد
و قال لنا المسيح:
(( من أهلك نفسه في سبيلي وجدها ))
و قال طالوت لجنوده في القرآن:
(( إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني و من لم يطعمه فإنه مني ))
و كلها إشارات و رموز إلى الحقيقة
فنحن لم نوهب الشهوة لنشبعها أكلا و شربا و مضاجعة و تكديسا للمطامع و الثروات.. و إنما وهبنا الشهوة لنقمعها و نكبحها و نصعد عليها كما نصعد على درج السلم
فالجسد هو الضد الذي تؤكد الروح وجودها بقمعه و كبحه و ردعه و التسلق عليه
و بقمع الجسد و ردعه و كبحه تسترد الروح هويتها كأميرة حاكمة و تعبر عن وجودها و تثبت نفسها و تستخلص ذاتها من قبضة الطين و تصبح جديرة بجنتها و ميراثها.. و ميراثها السماء كلها، و مقعد الصدق إلى جوار الله.. و هذه هي السعادة الحقة
أما إذا غلب حكم الطين و انتصرت الجبلة الحيوانية و قرن الإنسان ذاته الشريفة بالمادة الطبيعية فقد هبط بنفسه إلى سجن الضرورات و إلى غلظة الآلية و إلى نار الطبيعة التي تأكل بعضها بعضا و أصبح منها و فيها و لها.. و تلك هاوية التعاسة و التمزق و الشتات
و طريق الإنسان هو هذا الكدح خارجا من قبضة مادته إلى نورانية روحه
(( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ))
و هو في مكابدة دائمة من لحظة ميلاده يتأرجح بين قطبي جسده و روحه في قلق لا يهدأ و صراع لا يتوقف.. يصعد ثم يسقط ثم يعاود الصعود ثم يعاود السقوط
و كل منا له معراج إلى الكمال
و كل منا يصعد على قدر عزمه و إيمانه
و لا صعود دون ربط الأحزمة على البطون و كبح الشهوات
و الكامل حقا لا يرى في الحرمان حرمانا فموضوعات اللذة المادية لم تعد بذات قيمة في نظره فهو قد وصل بإدراكه العالي إلى تذوق المتع الروحية و اللذات المجردة.. فأصبحت الماديات بعد ذلك شيئا غليظا لا يسيغه.. و هو ارتقاء أذواق و ليس فقط ارتقاء همم و عزائم
و الصوفية يسمون هذا المعراج النفسي بالخروج.. الخروج من الصفات البشرية إلى الصفات الإلهية
و الله يطوي الصفات البشرية عن أحبابه كما يطوي لهم الأرض و يجذبهم إليه.. و هي الجذبة الصوفية.. و هي إذا جاءت لصاحبها على غير استعداد جعلت منه مجذوبا خارجا عن صوابه، و هي رتبة دون الكمال.. لأن الكمال هو الصلاح بوعي.. و ليس الصلاح بفقد الوعي
و الأنبياء في هذا الموضوع هم القدوة
و لم نعرف نبيا واحدا كان مجذوبا أو هائما على وجهه بلا عقل
و هذه إحدى مزالق الطريق الصوفي.. أن يتعجل السالك الطريق برياضات الخلوة الحادة و مجاهداتها المضنية فيفقد حيوانيته و عقله معا
و القرآن كان هو المنهج الأمثل لهذه التزكية النفسية فاختار
طريق الوسط.. طريق الاعتدال، بين الإفراط و التفريط
(( كلوا و اشربوا و لا تسرفوا ))..
فنصح بضبط النفس على جادة الاعتدال.. لا رهبانية و صيام الدهر.. و لا إطلاق لعنان الشهوات.. و إنما ضبط السلوك على دستور الشريعة و الوصايا.. و هو منهج يؤدي إلى العروج الروحي دون تعسف و دون جذب
و لا يهتم المسلم السالك بأن تجري على يديه الكرامات و خوارق العادات و إنما هو يقول.. أعظم كرامة هي الاستقامة.
و الاستقامة هي سمة الإنسان حقا
و هي تلك الحالة التي وصفناها في بداية المقال بأنها انسجام الظاهر و الباطن في وحدة متناسقة متناغمة.. و أنها حالة الصلح بين الإنسان و نفسه و بينه و بين الناس و بينه و بين الله