هكذا رُسمت على وجهه ابتسامةُ صفراء تخفي وراءها الكثير من
الحزن والألم؛ لقد عرض عليه ( تاجر النفوس ) مبلغا زهيدا ليسد به حاجاته
الملحة عليه والضرورية لقد كان أبو حسان ( مطقع ) لا يملك التعريفة وفي
رقبته عشرة أبناء، وقد مرضت زوجته ولبثت في الفراش، في الوقت الذي جفت فيه
المحاصيل وأصبح الكل يبحث جهده للظفر بلقمة عيش.
في حين كان هناك من يشتري النفوس من أصحابها بثمن بخس. (تاجر
النفوس) هكذا كانوا يلقبونه في القرية؛ ذلك لأنه يشتري كرامة النفوس
وكبريائها من أصحابها.
كل يوم وفي قهوة القرية ينادي ( تاجر النفوس ) ويقول: أنتم بخير
ما دمت بينكم. . . أنتم بخير ما إن تأتون إلي تصبح حال أهلكم بخير، بل
بألف خير.
كانوا رجال القرية يَقدِمُون إلى القهوة كل ليلة ليتبادلو فيها
همومهم وأوجاعهم، لكن ما إن قدم هذا الشخص، حتى أصبح الكتمان وتصنع المحبة
لتاجر النفوس يغلب على أجواء قهوة إبراهيم، لم يعد أحد من أهل القرية قادرا
على تلفظ حرف واحد يعاقب عليه قانونٌالتَمَسوا في تاجر النفوس صانع ومنفذا
له.
في كل ليلية ينقاد إلى تاجر النفوس عدد من الرجال الذين يصبحون
كما العبيد بين يده، في كل ليلة يشعر أبو حسان بالأسى على هذه النفوس التي
خذلت خالِقَها بظنونها أن أمرهم وأٌسرهم بيد ذلك الشخص، بظنونهم بأنه هو
المفر الوحيد من الظلم والأسى والحرمان، بظنونهم أن صاحب المال والمدعوم هو
من لا يجب أن نُعصي له أمرا، بظنونهم أنهم لا يملكون لردعه شيئا.
ومن غير أن يشعر، تلفظ أبو حسان بصوت باهت يكاد لا يسمع وقال:
آخ. . . مات الناس، لم يبقى غيري على قيد الحياة. . .آهٍ يا أطفالي. . .آهٍ يا صغاري. . . ماذا صنعت بي الحياة . . . لم تكن الحياة لتؤول بنا هذا المآل إلا. . . إلا. . .
أحس أبو حسان بتاجر النفوس يحاول جاهدا أن يعرف ما تنطق به
شفتاه من كلمات، ثم قدم نحوه ذلك التاجر بخطوات ثقيلة وهو يتمايل بجسده
الضخم، فأمسك بعنق أبو حسان وناوله مبلغا بسيطا من المال ثم قال له: أرأيت
ما أكرمني وما أحسنني ، أنا اتصدق عليك وأنت تشتمني ، لا أريدك أن تكرر ذلك
أتفهم؟ هيا اجب!!
يقولها أبو حسان وهو يتقطر غيظا وغلا عليه : نعم.-
- تاجر النفوس : هيا تبسم واركع بين يدي أنت من اليوم من رجالي الذين أحبهم ويحبون كرمي معهم.
يتبسم أبو حسان ابتسامة صفراء تخفي وراءها كرها لا يحصى لهذا الرجل.
ابتسم أبو حسان ولكن ابتسامته وصمته يحملان الكثير من الكتمان الذي لابد له أن يتفجر في يوم من الأيام.
ثم صدق من قال أن الكرامة كنز لا يفنى... وإنما تبقى مستترة عن الأعين منتظرة الفرصة المناسبة لتعلن للعالم أزليتها ودوامها.